الغاز و النفوذ في المشهد الجيوسياسي الجديد

10.05.2021
د. وليد صافي
Twitter icon
Facebook icon
LinkedIn icon
e-mail icon
شارك هذه الصفحة مع آخرين
Print Friendly, PDF & Email

بقلم: د. وليد صافي*

عززت اتفاقيتا كيوتو عامي 1992 و1997 من دور الغاز كطاقة بديلة ونظيفة في مواجهة التغييرات المناخية، خصوصاً أن التوقعات في تلك الفترة لم تكن على قدر عالٍ من التفاؤل في أن مصادر الطاقة المتجددة قادرة على سدّ حاجات الدول الصناعية، لذلك كان من الطبيعي ظهور أسواق مستهلكة كبيرة للغاز في اوروبا والصين واليابان .

وكما شكل النفط سلعة عالمية مهمة للاقتصاد العالمي في القرن العشرين وتبلور مفهوم أمن الطاقة في القدرة على تأمين الإمدادات والحفاظ على سعر تنافسي، يبرز الغاز في القرن الواحد والعشرين كسلعة دولية مهمة للاقتصاد العالمي ويتصدر المشهد الجيوسياسي الجديد في لعبة امتلاك النفوذ والحفاظ على أمن الطاقة.

يكتسب هذا المشهد أهمية بالغة لأنه يتشكل خلال مرحلة تراجع الاحادية الاميركية وظهور آفاق تكوين نظام دولي جديد، تلعب فيه روسيا والصين دوراً منافساً للولايات المتحدة الاميركية في المجالات المختلفة. ويبدو أن الطلب العالمي على الغاز من المتوقع ان يزداد خمس مرات وستكون الرهانات على إمداد اوروبا بالغاز من الحقول الروسية وآسيا الوسطى وشرق المتوسط  إحدى ساحات المواجهة الأميركية الروسية.

واحتلت لعبة النفوذ هذه من خلال الإمساك بممرات الغاز موقعاً أساسياً  في السياسة الخارجية الأميركية منذ عقود، وذلك  للحدّ من صعود روسيا ومن اعتماد الاسواق الاوروبية على الغاز الروسي الذي يمر عبر شبكات بيلاروسيا - أوكرانيا  الى اوروبا الشرقية، وعبر بحر البلطيق الى المانيا بواسطة غاز بروم الروسية. وتهدف هذه السياسة في الظاهر الى تخفيف تبعية الاقتصاد الاوروبي للغاز الروسي لما لذلك من تأثير على استقلالية السياسات الاوروبية، ولكنها في الواقع تعزز الهيمنة الاميركية على اوروبا وتؤدي الى تحجيم دور روسيا من خلال تقليص مواردها من قطاع الطاقة التي تستخدم في تعزيز ترسانتها المسلحة ونفوذها الدولي.

أهمية خاصة لشرق المتوسط

لا شك في أن اكتشاف احتياطات غاز كبيرة في دول شرق المتوسط سيرفع من حدة استخدام هذه السلعة في لعبة النفوذ الدولي والاقليمي، ويرفع بالتالي من حدة الصراع الاميركي الروسي على الامساك بالحقول المهمة والتحكم بطرق امداداتها، كما إن الصين دخلت لاعباً أساسياً في هذه المواجهة وذلك لتأمين تدفق الغاز الى اسواقها من منطقة سيبيريا ومن آسيا. وتشير التقديرات الى أن احتياجات الصين ستبلغ 610 مليارات متر مكعب في حلول العام 2035، ويبدو أن الاعلان عن الاتفاق الصيني الايراني الذي من المتوقع ان تنفق الصين في إطاره نحو 400 مليار دولار على البنى التحتية،  ولاسيما في قطاع الطاقة يقع ضمن اهداف الصين الاستراتيجية لتأمين اسواقها بالنفط بشكل عام والغاز بشكل خاص، ويدخل ضمن اللعبة القائمة على اعادة تركيب المشهد الجيوسياسي. 

جاءت الاستراتيجية الاميركية هذه في مرحلة دقيقة من إعادة تركيب الوحدة الاوروبية بعد سقوط جدار برلين، وتهدف بشكل خاص الى تعزيز الاحادية الاميركية على المستوى الدولي وتوسيع حلف شمالي الاطلسي نحو دول اوروبا الشرقية منطقة نفوذ الاتحاد السوفياتي السابقة.

محاصرة الغاز الروسي

لهذا، شكلت حقول الغاز وإمداداتها في آسيا الوسطى ومنطقة بحر قزوين نقطة مركزية بالنسبة الى الادارات الاميركية المتعاقبة منذ جورج دبليو بوش وحتى ادارة بايدن كي تكون بديلاً عن الخطوط الروسية لنقل الغاز الى اوروبا، واكتسبت تركيا العضو في حلف شمالي الاطلسي في هذا المشروع أهمية استراتيجية بالغة حيث تشكل المعبر الالزامي لمرور غاز تركمانستان، اوزباكستان وكازاخستان واذربيجان عبر بحر قزوين الى اوروبا. لكن بوتين القادم الى الرئاسة الروسية من رحم الKGB  والامن الفيدرالي الروسي، استطاع من خلال استراتيجية قطاع الطاقة وقدرة شركة غاز بروم الروسية ان يحتكر جزءاً مهماً من غاز  دول آسيا الوسطى، كما استطاع مواصلة تنفيذ خط أنابيب "نورد ستريم 2" لتزويد شمال اوروبا بالغاز على الرغم من العقوبات الاميركية على الشركات المساهمة بالمشروع . وقد ركزت استراتيجية الطاقة الروسية للعام 2030، على أهمية توجيه جزء من صادرات الغاز الروسي باتجاه المستوردين الآسيويين، وعليه فإن خط "قوة سيبيريا" الذي تمّ تدشينه في العام 2019 لينقل الغاز الروسي الى بعض المدن الصينية ستزداد أهميته الجيوسياسية مع اهتمام اليابان وكوريا الجنوبية بسد جزء من حاجتهما من الغاز الروسي.

معركة امتلاك النفوذ من خلال خطوط الغاز مستمرة،  وخطط تطويق روسيا من خلال توسيع حلف شمالي الاطلسي باتجاه منطقة النفوذ الروسية التقليدية مستمرة ايضاً، والازمة الاوكرانية هي أحد اوجه هذا الصراع . المواجهة مفتوحة على الكثير من الاحتمالات ، لكن الجميع متفق على أن أمن الطاقة خط أحمر. 

*أستاذ الدراسات العليا في الجامعة اللبنانية

- كلية الحقوق والعلوم السياسية