مستقبل الصين والعالم العربي

19.12.2020
Twitter icon
Facebook icon
LinkedIn icon
e-mail icon
شارك هذه الصفحة مع آخرين
Print Friendly, PDF & Email

بقلم د. كمال ديب

في السنوات الأخيرة، شهد العالم صعود الصين الاقتصادي غير المسبوق حيث سيعادل ناتجها المحلي القائم في حلول العام 2025 ناتج الولايات المتحدة الأميركية. وما يهمنا هنا هو علاقات الصين الاقتصادية مع العالم العربي، وهي علاقات شهدت في العقدين الماضيين قفزات غير مسبوقة في وقت يحتاج مشروع الصين الاقتصادي الأكبر "طريق الحرير" للمشرق العربي كجسر عبور رئيسي إلى ريادة الصين العالمية. ويأتي التنافس بين أميركا والصين في هذا السياق، لا لشيء إلا لأنّ الصين تأتي في المرتبة الثانية دولياً بعد أميركا في الاقتصاد، فالتنافس التجاري بينهما قد يُحدث جلبة أعلى بكثير من تنافس أميركا مع دول أخرى أقل شأناً، لكنّه لا يرقى إلى مستوى أزمة تُهدّد هيكلية التجارة العالمية – سواءً الثنائية أو المتعددة الطرف. 

موقع الصين وأميركا في العالم 

يكثر الحديث في الأوساط الأكاديمية والدبلوماسية والإعلامية عن تراجع موقع أميركا في العالم، ولكن من المبكر جداً الحديث عن أي تراجع للموقع الأول للولايات المتحدة الأميركية في العالم على الصعد الاقتصادية والعسكرية والثقافية والسياسية. نعم، ثمّة منافسة جدية من دول أخرى إلا أنّ أياً منها لا يرقى إلى مستوى يمكن أن يهدّد مرتبة أميركا الأولى، وليس ثمّة توقّع في المدى المتوسط ( عشر سنوات) أنّ كتلة من دول عدة ستنافس أميركا على المرتبة الأولى، رغم كثرة التحليلات عن الاتحاد الأوروبي أو مجموعة "البريكس" (البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب افريقيا) أو استراتيجية "طريق الحرير" الصينية. فمجموعة "البريكس" هي مجرّد لقاءات لا يجمع بين أعضائها – ومعظمهم على علاقات اقتصادية متينة مع أميركا – إلا القليل، من دون توافق أو خطة على مزاحمة أميركا. أما الإتحاد الأوروبي فهو في حالة تكامل، لا تنافس، مع أميركا ولا يطمح ليصبح كياناً مستقلاً على الساحة الدولية، كما إنّ الصين ليست راغبة في تحدّي أميركا، ومن الصعب التصور أنّ الصين تسعى لتصبح القوّة الأولى في العالم على كافة الصعد، ذلك أنّ تحدّي أميركا كلفته باهظة حيث وصلت سيطرة أميركا مستوى احتكارياً غير مسبوق، إضافة إلى عقوبات تجارية تقرّرها واشنطن ضد خصومها، تجتاح القوانين الدولية ولها مفعول مؤذٍ يخترق حدود الدول وحرماتها.  

وثمّة مؤشّرات تكشف تراجع أميركا عن موضع الصدارة في العالم: فهي في المرتبة السابعة في نسبة التعلّم، والحادية عشرة في البنى التحتيّة، والثامنة والعشرين في الفعالية الحكوميّة، والسابعة والخمسين في التعليم الأوّلي primary education، والثالثة والأربعين في متوسّط العمر المتوقّع، والسادسة والخمسين في نسبة وفيات الأطفال. والأسوأ أنّها الأولى في نسبة الإدمان على المخدرات. وفوق ذلك، هناك أكثر من مئة دولة ذات مستوى دخل أكثر عدلاً من أميركا، ولكن رغم كل ذلك ثمّة اعتبارات عدة تؤكد أنّ أميركا لا تزال وستبقى القوّة العظمى الوحيدة لفترة طويلة، فهناك إجماع في الأوساط الأكاديمية والبحثية على هذا الأمر (Michael Beckley, Unrivaled: Why America Will Remain the World’s Sole Superpower ). هناك تفوّق أميركي في معايير عناصر القوّة العالميّة قد تستمر عقوداً: فهي تملك ربع الثروة العالميّة (على الرغم من أن سكانها يبلغون 5 في المئة فقط من سكّان العالم) وتسجّل كل سنة 35 في المئة من كل الابتكارات والاختراعات العالميّة، وتمثّل 40 في المئة من الإنفاق العسكري العالمي، وهي مقرّ 600 شركة من أصل 2000 شركة هي الأكثر ربحاً في العالم، وفيها 50 جامعة من أصل "مئة أفضل جامعة في العالم". أما التفوّق والانتشار العسكري فهذا جليّ: إذ هي تنتشر في 800 قاعدة في 42 دولة في العالم ولها نفوذ عسكري في 180 دولة. فالتفوّق الأميركي إذاً، خصوصاً بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، لا شكَّ فيه وليس هناك مِن عوامل تقلّل منه حاليّاً على الرغم من تحديّات سياسيّة وتعثّرات عسكريّة. والمقارنة بين حاملات الطائرات العملاقة الأميركيّة (وعددها عشرون مقابل واحدة للصين وواحدة لروسيا) يظهر حجم التفاوت في القدرات العسكريّة لأنه يحدّد قدرة الانتشار السريع والمتسّع حول العالم.  

المقاييس المذهلة عن صعود الصين لا تعني حتميّة صعودها إلى الموقع الأول، فالصين تزيد فعلاً من حجم اقتصادها، حيث من المرتقب تفوّق حجم ناتجها المحلّي الإجمالي على حجم الناتج الأميركي في العام 2025 وهو مؤشّر على صعود القوة الصينيّة. فالصين باتت تحتلّ المرتبة الأولى في العالم في نسبة تملّك المنازل واستعمال الإنترنت وعدد خرّيجي الجامعات وانخفاض نسبة الفقر المدقع بين السكّان حيث تمّ رفع 800 مليون نسمة من حافة الفقر خلال 20 سنة، وبات الشعب الصيني أكثر تفاؤلاً بالمستقبل. ورغم ذلك فهي مثقلة بإنفاق هائل على الرعاية الاجتماعيّة إلى حدّ ينهك اقتصادها ويعرقل نمو قدراتها المتوقعة. واحتساب قوّة الصين على أساس الناتج المحلّي الإجمالي لا يكفي، بل يجب احتساب الناتج المحلّي الخالص للفرد (أي بعد تسديد الفرد الضرائب والمتوجبات المالية) والمقدرة الفردية في اقتناء السلع والخدمات. 

والصين مثقلة بأعباء الرعاية الاجتماعيّة وإطعام عدد هائل من السكّان (مليار ونصف المليار) ونسبة كبيرة من إنفاقها العسكري تذهب لضبط الأمن في البلاد ومنع القلاقل وليس لنشر النفوذ في العالم، في حين أنّ ميزانيّة الدفاع الأميركيّة مكرّسة لدور الهيمنة العالميّة، وتترك لميزانيّات محليّة للولايات ضبط الأمن وتمويل الشرطة. وفي تراتبيّة الجامعات ليس هناك إلا جامعتان صينيتان في أوّل مئة جامعة في العالم، فيما تضم أميركا خمسين جامعة من أصل أوّل مئة جامعة في العالم. وهجرة الأدمغة لا تزال مشكلة رئيسية تعاني منها الصين ولا تعاني منها أميركا البتّة، لا بل أنّ أميركا تجذب سنويّاً 3500 عالم ومهندس صيني، ونحو مليون من أصحاب الاختصاصات الجامعية من كل بلدان العالم (بمن فيهم 20 ألف مخترع وعشرة آلاف عالم ومهندس). 

والتداخل بين اقتصادات أميركا والصين يمنع أي طرف إلحاق الأذيّة المباشرة بالآخر، ولذلك واشنطن تتبع وسائل ملتوية للجم صعود الاقتصاد الصيني، فهي تخلق للصين مشاكل متعدّدة مع الدول التي تحيط بها وتضغط عليها لضبط سياستها النقدية وتحاربها في شؤون التكنولوجيا وبخاصة في قطاع الاتصالات (شركة هواوي). وفي العام 2018 أتخذ النزاع تصعيداً جديداً مع إدارة الرئيس دونالد ترامب، حيث اتسع النزاع ليشمل منذ نيسان 2018 شكوى أميركية أنّ الصين لا تحترم قوانين الملكية الفكرية في شؤون التكنولوجيا وقطاع الاتصالات، وأخذت واشنطن تفرض سلسلة غرامات مالية على الصين وترفع الرسوم الجمركية وتزرع عراقيل غير ضريبية أمام البضائع الصينية.

الصين والعالم العربي 

الصراع التجاري بين الصين والولايات المتحدة لا يعدو كونه سعي كل دولة - مهما عظم شأنها – إلى تحسين موقعها، ولذلك فالدول العربية من الجزائر ومصر إلى الإمارات والسعودية وقطر والعراق تواصل تعاملها التجاري والاقتصادي مع الصين وتسعى الى تعميقه بصرف النظر عن النزاع الصيني - الأميركي. فالدول العربية – من موقع مصلحتها العليا – هي التي تقرّر مواقع التعاون من عدمه مع الصين، من دون أن يشكّل هذا المنحى أي قلق من ردّة فعل أميركية. فالصراع الصيني الأميركي يختلف عن الصراع بين أميركا ودول تعتبرها مارقة كإيران أو فنزويلا فتشنّ عليها حرباً اقتصادية وتسعى الى تقويضها، بل على العكس، فكل دول العالم، بما فيها أميركا نفسها، تسعى إلى تعميق وتطوير روابطها الاقتصادية بالصين في معظم الحقول، كما إنّ الصين ومنذ 25 عاماً قدّمت سياسة خارجية معتدلة ومحايدة وهذه هي أيضاً نظرة العالم العربي إلى الصين.  

العلاقات العربية بالصين متشعبة وتطال التبادل التجاري والمشاريع العمرانية والعلاقات الدبلوماسية وسفارات، مع نمو دراماتيكي في حجم التبادل التجاري ووجود 5000 شركة صينية داخل الدول العربية مع عمالة صينية ضخمة تفوق المليون. وواقع الأمر أنّ فرص الدول العربية الواقعة جغرافياً في غرب آسيا يجعلها في قلب مشروع طريق الحرير الصيني ويفتح الباب لتطوير مصالحها كلاعب اقتصادي دولي.

والفرص للتعاون الاقتصادي بين الصين والمنطقة العربية متاحة في ثلاثة حقول: توسيع التعاون من التبادل التجاري إلى مجالات الاستثمار - تشبيك دور المشرق العربي وبخاصة الخليجي في الشحن والترانزيت - ربط صادرات الطاقة العربية بإستراتيجية  الصين الكبرى (BRI)، وما يسهّل هذا التعاون أنّ الصين تشكّل المصدر الرئيسي الذي يصل أحياناً إلى 15 و20 في المئة من واردات الدول العربية، ومرشّحة للازدياد، في حين تأتي الولايات المتحدة في المرتبة الثالثة أو العاشرة من مجموع واردات العرب من السلع والخدمات. فالصين باتت اليوم المصدّر الأكبر للسلع في العالم بقيمة 2300 مليار دولار (تليها أميركا بقيمة 1600 مليار دولار).

كما يُلاحظ توجه السعودية نحو تعميق العلاقات مع الصين التي أصبحت أهم شريك تجاري لها وأكبر مستهلك للنفط السعودي، فالاستثمارات السعودية في الصين تزداد بشكل تصاعدي مرفقة بإدخال اللغة الصينية في مناهج التعليم السعودي، وتسعى الإمارات إلى استكشاف explore أوجه تعميق التعاون التجاري في أشكاله الاستثمارية المباشرة وليس التبادل وحسب.  

أما في النقل البحري للسلع من الصين وآسيا إلى المنطقة العربية وأوروبا فقد أصبح الأكبر في العالم، وحجم البضائع المنقولة ينمو بمعدّل 15 في المئة في حين أنّ نمو حجم البضائع من أوروبا إلى أميركا الشمالية لا يزيد على 3 في المئة فقط من حجم النقل الدولي سنوياً. فالصين ليست المنتج الأكبر للسلع في العالم وحسب، بل إنّ شركات الشحن الصينية تسيطر على 12 في المئة من قطاع الشحن الدولي، لتصبح في المرتبة الثالثة في شحن البضائع بعد اليونان واليابان (في المقابل حصّة شركات الشحن الأميركية في سوق الشحن العالمي هي أقل من 5 في المئة وبريطانيا 2.5 في المئة)، وهذه النسب تعكس الثقل الاقتصادي في العالم الذي يتجّه نحو آسيا ولم يعد في الغرب.  

وهذه مسألة تفيد الدول العربية وبخاصة تلك التي تتمتّع ببنية مواصلات جيدة (تجهيزات بحرية وجوية وشبكة تحتية للخزن والمعاملات والقوانين) ويمكنها تشبيك نفسها مع طرق الشحن الدولية العابرة من الصين إلى دول تقع إلى الغرب من المنطقة العربية. فالشحن هو الوجه الأبرز للعولمة لأنّه يربط الاقتصاد الدولي ويسهّل التبادل التجاري، وبخاصة بعد ان توحّدت مقاييس المرافىء العالمية ومنها مرافىء الإمارات في أساليب الشحن وصناديقه وطريقة تفريغها من سطح السفن وتكديسها، والآليات التي تُستعمل لتسهيل القيام بمهام الشحن والترانزيت. صحيح أنّ الإمارات تلعب دوراً مهماً كوسيط شحن وتخزين للبضائع من الصين إلى المنطقة العربية وأفريقيا، ولكن النظرة المستقبلة يجب أن تأخذ في الإعتبار فرص شحن البضائع الصينية براً إلى دول الجزيرة العربية والعراق وسورية ولبنان والأردن ومصر، وبخاصة متى استتبت الأمور في معظم هذه الدول. وأفضل رهان هنا هو مشروع الشراكة البرية لبناء خطوط سكك حديد الذي أطلقته الصين نحو المنطقة العربية العام 2010، ومن الدول العربية التي وقّعت عليه دولة الإمارات لربط الدول العربية بالصين بشبكة قطارات شحن بري غير متواجدة حالياً.  

أما التعاون العربي – الصيني في سوق الطاقة فهو متشعب. لقد أصبحت الصين أكبر مستهلك للطاقة في العالم، فالصين كاليابان لا تملك مصادر طاقة ذا أهمية أو كافية في باطن أراضيها وتتّكىء على استيراد النفط والغاز لتشغيل اقتصادها وتوفير حاجيات المستهلكين للوقود، وطلب الصين لمصادر الطاقة لم يتوقّف عن النمو منذ 30 عاماً، فكلّما نما اقتصادها وتحسّنت مستويات المعيشة لدى شعبها، زاد استهلاكها للطاقة ووقّعت المزيد من الصفقات لاستيراد مصادرها من أي دولة، حتى أنّ مستويات النمو الاقتصادي للصين باتت تحدّد حجم طلبها من النفط والغاز المسال وإمدادات النفط والغاز، ولذلك فالصين تشتري كميات كبيرة من الغاز من قطر وكميات من النفط من السعودية، خصوصاً بسبب رخص أسعار الأخيرة، إضافة إلى المشروع الصيني - الروسي الضخم لمدّ الصين بالغاز عبر أنبوب طاقة سيبيريا  Power of Siberia، واستراتيجية الصين قضت بتنويع مصادر الطاقة واعتمادها على استيراد الطاقة سينمو في السنوات المقبلة، ليصل في حلول 2030 إلى نسبة 70 في الئة من حاجاتها. 

وهذه الاستراتيجية تفسح المجال لتعاون وثيق بين العرب والصين. فمشروع "طريق الحرير" Belt and Road Initiative  يشمل الطاقة أيضاً ويتمثّل بأنابيب عملاقة للنفط والغاز، يبدأ في الصين نحو أفغانستان وتمر فروعه في الباكستان تصبّ في بحر العرب جنوباً، كما تتجه فروع أخرى نحو شواطئ لبنان وقبرص واليونان مروراً بالخليج العربي والعراق.   

وهذا المشروع هو مفتاح الصين إلى الريادة العالمية، ولذلك هي تؤسس له في شرق آسيا لتصل إلى غربها حيث المنطقة العربية. فمنذ 25 سنة ثمّة منحى في آسيا لخفض التبعية الاقتصادية لأميركا وتخفيف دور صندوق النقد الدولي والبنك الدولي اللذين تسيطر عليهما واشنطن ومطالبة الصين بدور رئيسي داخل المؤسسات المالية الدولية والتخلي عن الدولار الأميركي كعملة عالمية مفضّلة في التجارة وأسواق المال واستبداله بسلّة عملات أخرى. وإذا أضفنا أنّ عدد سكان آسيا بات يمثّل 60 في المئة من سكان الكرة الأرضية (أي 4.5 مليارات نسمة من أصل 7.5 مليارات)، فتراجع النفوذ الأميركي في آسيا يتسارع وبخاصة مع ولادة السوق التجارية الحرة بين الصين واليابان وكوريا الجنوبية هذا العام، كما سُجّلت "عودة الأدمغة" إلى الصين في حين تخطط الصين لتخرّج سنوياً 300 ألف مهندس وعالِم مقارنة بالولايات المتحدة التي تراجع عدد خريجيها في الهندسة والعلوم إلى 50 ألفاً سنوياً.