دفاعاً عن فرنسا التي نعرفها

05.11.2020
Twitter icon
Facebook icon
LinkedIn icon
e-mail icon
شارك هذه الصفحة مع آخرين
Print Friendly, PDF & Email

بقلم: د. كمال ديب

من السهل هذه الأيام تكثيف أي كلام ضد فرنسا لشعبيته. ولكن المطلوب في مثل هذا الظرف الهدوء والتعقل وعدم الانجرار في الفعل ورد الفعل والتصاريح القصوى. 

نعم ارتكبت حكومة فرنسا خطأ فادحاً في التهجم على ديانة ونعتها بالإرهاب بسبب الهجمات الإرهابية المجرمة على الأراضي الفرنسية. ونعم ليس مبرّراً تصرف الإعلام الفرنسي في تحدي المشاعر تحت شعار الحريات التي تُمارس مزاجياً في حين تتشدد فرنسا في محاسبة وتجريم الذي ينتقد اسرائيل والصهيونية. وهنا يجب التذكير بتصريح رئيس الجمهورية جاك شيراك في 8 فبراير 2006 عشية نشر شارلي إيبدو لرسوم مسيئة، حيث قال: "فيما يتعلق بمسألة الرسوم الكاريكاتورية وردود الفعل التي تثيرها في العالم الإسلامي، أذكّر أنه إذا كانت حرية التعبير من ركائز الجمهورية الفرنسية، فإنها تستند أيضًا إلى قيم التسامح واحترام جميع المعتقدات. ويجب تجنّب أي شيء يمكن أن يضر بمعتقدات الآخرين، وخاصة المعتقدات الدينية. ويجب ممارسة حرية التعبير بروح المسؤولية. إنني أدين كل الاستفزازات الواضحة التي يمكن أن تثير المشاعر بشكل خطير". وهذا رابط التصريح من موقع قصر الإليزيه: https://www.elysee.fr/front/pdf/elysee-module-10872-fr.pdf  

 في أوج موجة الغضب ضد فرنسا، على المرء أن يدافع عن فرنسا التي نريد، أو بالأحرى فرنسا التي نرغب أن تعود، صديقة العرب وحقوقهم والوطن الثاني لملايين العرب والإفارقة. 

يعجبني في فرنسا نظامها العلماني والديمقراطية والتنوع واستقبالها 18 مليون مهاجر ولاجىء. إن عدد سكان فرنسا حالياً هو 68 مليون ولكن أقل من 50 مليون هم من أصل فرنسي فقط، والباقي موزّع بين 7 ملايين من المغرب العربي (الجزائر وتونس والمغرب وموريتانيا) و2.5 مليون من افريقيا السوداء ومليون من آسيا وأماكن أخرى منها لبنان، وحوالي 7 مليون من دول أوروبا الشرقية وايطاليا والبرتغال وبلدان أخرى . وثمّة تقارير أكاديمية أنّ عدد العرب في فرنسا أو الأشخاص من أصل عربي أو من زيجات مختلطة يدخل فيها العنصر العربي يكاد يناهز 10 مليون.   

بناء على التنوع الديموغرافي فسياسة فرنسا تجاه مواطنيها متطورة جداً من حيث أسس اللاييك في التربية والتعليم والإدارات الرسمية، وذلك منذ العام 1905. وفرنسا منذ 25 سنة (أي عام 1995) اعتمدت قانون المساواة في التوظيف équité en matière d'emploi ومنذ ذلك التاريخ ازداد عدد العرب والسود والأقليات في الدوائر الرسمية، وحتى في السلك الديبلوماسي. وفي الحكومات الفرنسية المتعاقبة نجد فرنسيون من أصل عربي أو افريقي. 

وفي باريس ومدن فرنسا يوجد آثار عربية كثيرة، ومنها مسجد باريس الشهير الذي يشبه جامع اشبيليا في الأندلس بقناطره وحدائقه. كما يوجد أيضاً أسواق عربية عديدة حيث تجد منتجات المغرب والجزائر ومصر وسورية ولبنان متوفرة وبأسعار جيدة.

إنّ حضور العرب والأفارقة والأقليات هو كبير في الرياضة الفرنسية. وتكفي نظرة إلى المنتخب الوطني الفرنسي لكرة القدم لنرى أنّ معظمه من السود والعرب. وهذا ينطبق على الأفلام والموسيقى والتلفزيون والإعلام. 

في فرنسا أكبر تجمّع لموسيقيي وفناني المغرب العربي وإفريقيا بسبب وجود استديوهات وشركات تسجيل عالمية تعنى بثقافات الشعوب ومنها Ocora وBuda وامبرينت دجتال واتنيك أفاديس Ethnic Auvidids وآريولا وميلودي وغيرها. واي كتالوغ محترم لموسيقى العالم يتضمن نسبة كبيرة من انتاج فرنسا. 

في باريس يوجد أيضاً معهد العالم العربي منذ 1976 الفريد من نوعه وفي مبنى جميل. وحتى بعد أن توقفت عن دعمه الحكومات العربية استمرت الدولة الفرنسية في تمويله. وهذا المعهد ينتج الكتب الثقافية والتاريخية بالعربية والفرنسية وكذلك يقيم الحفلات الموسيقية والغنائية التراثية ثم يصدرها على اسطوانات مدمجة ويطرحها في الأسواق حول العالم ويصدر مجلة فصلية رائعة باسم قنطرةQantara.

حتى أنّ من كبار الأدباء في فرنسا هم عرب ومنهم لبنانيون: أمين المعلوف عضو الأكاديمية الفرنسية الذي يُطبع له من كل رواية ملايين النسخ بالفرنسية وتتم ترجمتها إلى عدّة لغات منها العربية. وكذلك من الكتّاب هدى بركات وفينوس خوري واتيل عدنان وألكسندر نجار. وفي فرنسا عدد كبير من الأدباء المغاربة ومنهم الطاهر بن جلون ومحمد ديب وآسيا جبار والطاهر وطار وكاتب ياسين وعبداله العروي. 

إن أجمل الكتب وأعلاها قيمة عن الدول العربية نجدها باللغة الفرنسية ومعظم بيوغرافيا سيرة ذاتية لزعماء وشخصيات عرب نجدها بالفرنسية أولاً. 

عشرات آلاف الصبايا والشبان من لبنان وسورية ومصر والمغرب وتونس والجزائر وغيرها من الدول العربية تخرجوا من جامعات فرنسا. وأحياناً تسجلوا بدون مقابل أو بمنحة من فرنسا. 

الذي يعيش في فرنسا يرى تعامل الدوائر الرسمية والبرامج الاجتماعية مع الشعب وخاصة مع العرب والأقارقة من حيث الخدمات والعلاج والأدوية والطبابة الخ ما لا يجدونه في بلادهم. 

الفكرة العنصرية تجاه الأفارقة والعرب التي قد نجدها في مجلات تان تان أو في الروايات أو في بعض الأفلام هي تكاد تغيب تماماً عن المجتمع الفرنسي اليوم مع بعض الاستثناءات. والعنصرية المقنعة التي يمارسها البعض هي مخالفة للقانون أو هي من المنظمات السرية الممنوعة. ويكفي أن ننظر إلى توجهات الرأي العام والانتخابات في فرنسا لندرك أنّ اليمين المتطرف هو مرفوض ويحصد نسبة ضئيلة من المقاعد والأصوات.  

لقد زرت فرنسا مراراً ورأيت أن التساهل مع الأقليات الدينية وانتشار ممارسة الشعائر واللباس الخ. هو في فرنسا أكثر من أي مكان في أميركا الشمالية وحتى في أوروبا (ربما بلجيكا تأتي في مرتبة مماثلة). ولذلك من العبث أن يسعى البعض بتعصبه أن يعمل داخل فرنسا لتكون على شاكلته أو على عقيدته. بل هي وطن لجميع شعوب العالم منذ أطلقت ثورتها عام 1789.  

لقد وقفت فرنسا نسبياً إلى جانب الحق العربي وميّزت نفسها في عهود شارل ديغول وجورج بومبيدو وجيسكار ديستان وجاك شيراك وفرنسوا ميتران. ثم أنّها بدأت تتراجع في مواقفها العربية منذ حرب العراق عام 2003.  وعلى المرء أن يتيّقظ في عدم إصدار الأحكام العامة على دولة عريقة مثل فرنسا وأن ينتقدها ولكن بشكل عقلاني وبمقدار الخطأ. ويجب أن ندرك أنّ حكومات فرنسا تتعرّض لضغوطات أميركية هائلة منذ 2003 حتى اليوم. ويكاد الإعلام الفرنسي والانتلجنسيا الفرنسية ليس هو وليس بالأحرى فرنسياً كما كان في السابق لأنّه مخترق ومرتهن لأصحابه الجدد من الخارج. 

لكل هذا عندما تكون فرنسا في مشكلة، فهي تستحق التفهم ووقفة وفاء من أصدقائها العرب. نريد "فرنسا ديغول العرب" و"فرنسا الحق الفلسطيني" و"فرنسا صديقة لبنان وسورية."