ماكرون .. وماكِرون
تأجيل الانهيار أم خطة إنقاذ؟

13.09.2020
Twitter icon
Facebook icon
LinkedIn icon
e-mail icon
شارك هذه الصفحة مع آخرين
Print Friendly, PDF & Email
بهيج أبو غانم

مضى أكثر من أسبوع على الزيارة الثانية للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، وانقضى أكثر من شهر على الزيارة الأولى. وللزيارتين أهمية قصوى لرئيس دولة عظمى من حيث توقيتهما ومضمونهما. وبين الزيارتين وبعدهما، كثرت التعليقات والتحاليل التي تعزّزت ببرنامجها وما تخللهما من محطات ذات طابع اجتماعي وإنساني وتاريخي من دون أن تكون بريئة من إشارات ورسائل سياسية.

قالوا الكثير عن المبادرة الفرنسية الاستثنائية تجاه لبنان، تارة إنها نوع من الرعاية أو الوصاية، وتارة أخرى أنها استحضار لعهد الانتداب الفرنسي، وحيناً أنها تمسك بنهائية «لبنان الكبير» الذي أعلنه الجنرال غورو في أيلول من العام 1920، ومن قصر الصنوبر، الذي شهد رعاية ماكرون لاحتفالية المئوية الأولى.

كل هذه التحاليل لها ما يبررها تاريخياً لكنها تبقى في إطار الشكل من دون أن تنفذ إلى جوهر الزيارتين وخلفياتهما وأهدافهما.

فرنسا ولبنان

بداية، يمكن القول أن مبادرة الرئيس الفرنسي تجاه لبنان لم تأت من فراغ، وهي ليست بالتأكيد وليدة ساعتها، بل ترتكز إلى علاقات تاريخية عريقة بين البلدين، ولم تكن عبارة «الأم الحنون» سوى انعكاس لمدى وعمق الاهتمام الفرنسي بلبنان، بلداً تعددياً، وواحة عربية ذات وجه فرنكفوني، مطلاً على البحر المتوسط.

وقد لا يتّسع المجال لاستعراض تاريخ العلاقات بين البلدين، وربما يكفي منها ما يتعلق بالرئيس ماكرون شخصياً الذي كان راعياً ومحركاً أساسياً لانعقاد مؤتمر »سيدر» (المؤتمر الاقتصادي للتنمية من خلال الإصلاحات مع الشركات) الذي انعقد في 6 ابريل من العام 2018.

كذلك بادر الرئيس الفرنسي بُعيد زيارته الأولى إلى لبنان إلى عقد مؤتمر لدعم لبنان أسفر عن التعهد بنحو 230 مليون دولار من بلدان ومؤسسات عدة وذلك في إطار الإغاثة العاجلة بعد نكبة مرفأ بيروت.

وبهذا المعنى فإن الاهتمام الفرنسي بلبنان يمثل استجابة لرأي عام فرنسي من جهة ويمثل هدفاً إستراتيجياً ليكون موطئ قدم لفرنسا ولاسيّما في منطقة شرق المتوسط المرشحة لتكون مسرحاً لصراع دولي حول النفط والغاز.

التوقيت المناسب

وإذا كانت مبادرة ماكرون واضحة الأهداف والتوجهات فإن توقيتها المناسب جاء بعد كارثة مرفأ بيروت وتدمير عدد من أحياء العاصمة.

ففرنسا كانت باستمرار تتابع مسار الأزمة الاقتصادية المتفاقمة والتي وصلت إلى حافة الانهيار الاقتصادي والاجتماعي. وكانت في طليعة البلدان الأوروبية التي كانت تراقب أداء حكومة حسان دياب وتشهد على عجزها بل وعلى عدم رغبتها في تحقيق الإصلاحات، وفي التوصل إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي ليكون خطوة تمهيدية للإفراج عن بعض من المساعدات المالية ولاسيّما ما يعود منها إلى مؤتمر «سيدر». وبدأت الأزمة الاقتصادية تنذر بتداعيات خطيرة على المستويات كافة مما كان ينذر بنتائج خطيرة على مستوى كلفة المعيشة وتفاقم نسبة البطالة وبلوغ التضخم أكثر من 80 في المئة، مع استمرار ارتفاع أسعار صرف الدولار وتناقص احتياطات مصرف لبنان بصورة دراماتيكية.

وإضافة إلى تداعيات الاحتجاجات الشعبية وجائحة وباء الكورونا، جاءت نكبة المرفأ والخسائر الضخمة لتنذر بأن الانهيار الاقتصادي المتمادي قد يؤدي إلى حصول انفجار اجتماعي وأمني تخشى فرنسا ومعها الاتحاد الأوروبي من انعكاساته الخطيرة.

الإغاثة العاجلة

والتقطت الدبلوماسية الفرنسية في نكبة المرفأ اللحظة السياسية المناسبة للتحرك سريعاً والعمل على تنفيذ خطة كانت معدة سابقاً.

جاءت زيارة ماكرون الأولى لتحرّك اندفاعاً دولياً لافتاً من أجل تقديم المساعدات العاجلة ولاسيّما على الصعيدين الغذائي والطبي، وبخاصة بعد التدمير الكلي

لـ 4 مستشفيات في بيروت. وسقوط أكثر من 6 آلاف جريح و190 قتيلاً وتهدم آلاف الأبنية كلياً أو جزئياً.

وبالفعل شهد لبنان توافد المسؤولين الكبار من العديد من البلدان من ألمانيا وإسبانيا وكندا على مستوى رؤساء وزارة أو وزراء خارجية، إضافة إلى مسؤولين من بلدان عربية مثل قطر ومصر.

وبالفعل عرف لبنان دفقاً من المساعدات من أوروبا والبلدان العربية.

غير أن هذه الإغاثة وعلى الرغم من طابعها الملح أكدت على أمرين أساسيين:

الأول: الحرص على أن تبقى المساعدات في إطار الإغاثة ولا تتعداها إلى الاعمار، بخلاف ما اعتبرها البعض بأنها بمثابة فك الحصار الاقتصادي المالي المضروب على لبنان.

والثاني، أن تدفق هذه المساعدات بحراً وبراً وجواً كان ممنوحاً وبشكل واضح وصريح إلى المجتمع المدني وإلى لائحة من الهيئات الأهلية التي لا تتوخى الربح (NGOs)، وفي هذا رسالة أن المجتمع الدولي لا يثق بالسلطات الرسمية سواء التنفيذية أو التشريعية، الأمر الذي ينطوي على موقف سياسي واضح تجاه الحكومة وتجاه التلكؤ في إقرار البرنامج الإصلاحي.

ماكرون والإصلاح

غير أن الجانب الأهم من زيارتيّ الرئيس الفرنسي إلى لبنان تمثل في محاولة للتأسيس لمرحلة سياسية جديدة في لبنان توفر إطاراً مناسباً للشروع في خطة إنقاذ اقتصادي. تجلّى ذلك في كل اللقاءات والاجتماعات التي عقدها ماكرون سواء مع رئيس الجمهورية ورئيس مجلس النواب أو مع ممثلي القوى السياسية التي إلتقاها في قصر الصنوبر ومن بينها ممثل حزب الله. كما تجلّى ذلك في الأسلوب الذي اعتمده الرئيس الفرنسي في تعاطيه مع المسؤولين والذي بدا وكأنه بمثابة تعليمات أو إملاءات، مما يعكس جدية المبادرة الفرنسية والحرص على إنجاح الخطة. كما بدا أن ماكرون في ما قام به إنما كان يمثل الاتحاد الأوروبي الذي يرغب في إنقاذ لبنان اقتصادياً ومن خلفية برغماتية تتجاوز إشكالية العلاقات الأوروبية بحزب الله.

وعليه، حمل الرئيس الفرنسي إلى المسؤولين خطة إصلاحية هي بمثابة خريطة طريق أودعت الحكومة العتيدة التي تم اختيار رئيس لها بمباركة فرنسية هو الدكتور مصطفى أديب سفير لبنان في ألمانيا، وكان واضحاً أنه من ضمن التعليمات تشكيل حكومة من اختصاصيين ذوي كفاءة تحظى بثقة المجتمع الدولي وتكون قادرة على اتخاذ خطوات إصلاحية سريعة بعيداً من التجاذبات بين القوى السياسية حول المصالح والحصص.

الموقف الأميركي

وإذا كانت المبادرة تجاه لبنان واضحة من حيث بعدها الأوروبي وجزئياً ببعدها العربي، فإن التساؤل كان ولا يزال يدور حول حقيقة الموقف الأميركي من المبادرة الفرنسية وما إذا كان موقفاً مؤيداً أم متحفظاً أو رافضاً.  

إلا أن ثمة شبه إجماع لدى المحللين بأن الموقف الأميركي من المبادرة الفرنسية هو كالتالي: لا يمكن إنكار وجود تنسيق أميركي – فرنسي ورغبة مشتركة في إعطاء هذه المبادرة فرصة للنجاح من أجل تحقيق أهداف محددة في المجالين الاقتصادي والاجتماعي بحيث يتاح للمبادرة في حال نجاحها، العمل على تأجيل الانهيار الاقتصادي وإبقاء تداعياته الاجتماعية تحت السيطرة. ويؤمل من هذه المبادرة الإتيان بحكومة «مستقلة؟» قادرة على تحقيق جملة من الإصلاحات التي ثمة اتفاق على أولوياتها. ولا شك أن الموقف الأميركي يتفق ومقتضيات المرحلة التي تمر بها الولايات المتحدة في الفترة الفاصلة لموعد الانتخابات الأميركية.

واستطراداً، وفي حال نجاح هذه المبادرة في حدودها المرسومة، فإن للولايات المتحدة أهدافاً أخرى قد تظهر جلية بعد الانتخابات الأميركية، وهي أهداف سياسية تندرج ضمن السياسة الأميركية في المنطقة وطبيعة الصراع مع إيران وعلاقة ذلك بوجود حزب الله في لبنان. وما يعزز مثل هذا الواقع هو طبيعة الزيارة الأخيرة التي قام بها دايفيد شنكر واقتصرت لقاءاته خلالها على ممثلي الحراك والمجتمع المدني والنواب المستقيلين.

وفي الوقت الذي لم يقابل المسؤول الأميركي أياً من المسؤولين وفي ذلك موقف واضح، فإنه رشح عنه تلويح بفرض عقوبات تطال لبنانيين حلفاء لحزب الله. وبالتالي فإن ثمة ما يصف الموقف الفرنسي بـ »الجزرة» والموقف الأميركي بـ «العصا». وما أكّد ذلك العقوبات التي صدرت بحق الوزيرين السابقين علي حسن خليل ويوسف فنيانوس.

الموقف العربي

وإذا كان بات واضحاً طبيعة الموقفين الفرنسي والأميركي، فما هي طبيعة الموقف العربي. لا شك في أنه ليس هناك موقف عربي موحد من خلال الآتي:

1 - ثمة توافق مصري كامل مع المبادرة الفرنسية تجلّى في المواقف التي أطلقها السفير المصري في لبنان، وفي حجم المساعدات المصرية من خلال جسر جوي وبحري من البلدين. وينطلق هذا الموقف من حرص مصر في الأساس على استقرار لبنان نظراً إلى العلاقات العريقة والوثيقة بين البلدين.

وفي موازاة ذلك ينطلق من التناغم والتوافق المصري الفرنسي حول الصراع الدائر في حوض المتوسط سواء بالنسبة إلى الوضع الليبي أو بالنسبة إلى السياسة التركية في ما يتعلق بالمياه الإقليمية المحيطة باليونان وبقبرص.

2 - إن الموقف السعودي والواضح هو الأقرب إلى الحياد والترقب منه إلى أي أمر آخر. فالسعودية باتت حذرة من أي موقف تجاه لبنان لا يكون واضحاً من حيث العلاقة بين الدولة وحزب الله. وبالتالي فإن الموقف السعودي يتماهى كثيراً مع الموقف الأميركي.

الحكومة هي المحك

ومهما تعددت وتنوعت التحليلات، فإن تشكيل الحكومة العتيدة برئاسة مصطفى أديب تبقى هي المحك الذي يحسم الكثير من الاستنتاجات والتوقعات ويميّز بين الخيط الأسود والخيط الأبيض.

فإذا جاء تشكيل الحكومة أشخاصاً وحقائب بما يتفق مع ما طمحت إليه فرنسا وسعت إلى تسويقه لدى مختلف الفرقاء السياسيين، فإن ذلك يشكل دليلاً على نجاح المبادرة الفرنسية ولتشكل بداية لمرحلة أولى في مسار إنقاذ لبنان. أما إذا فشل التأليف وتغلبت عليه شروط الأفرقاء حول الأشخاص والحقائب ففي ذلك خيبة لفرنسا ستنتج عنها مضاعفات وتداعيات لعل في مقدمها فرض عقوبات أميركية وربما أوروبية تضع لبنان في عين العاصفة وعلى حافة البركان