لبنان كبير لا يموت

30.08.2020
Twitter icon
Facebook icon
LinkedIn icon
e-mail icon
شارك هذه الصفحة مع آخرين
Print Friendly, PDF & Email
بقلم د.كمال ديب
يحتفل لبنان اليوم يوم الثلاثاء أول أيلول/سبتمبر 2020 بالذكرى المئوية لولادة دولة لبنان الكبير عام 1920. ومن هذا المنطلق، يثبت زيف منطق الذين طالما سخروا من كيان لبنان واعتبروه مصطنعاً ذا تاريخٍ مزّيف وحدودٍ مركّبة، أو منطق الذين يعتبرون لبنان اليوم دولة فاشلة انهارت جراء الأزمات الاقتصادية المتلاحقة. ومن غير المقبول منطق الذين يسخفون من رموز لبنان الثقافية والحضارية والاجتماعية. ذلك أنّ دولة لبنان الكبير ترتكز على ثلاثة أعمدة هي (1) شرعية الكيان و(2) أسطورته التاريخية (3) ووضعه الصامد الراهن. وهي أعمدة صلبة ثقافية وسياسية واقتصادية أعطت لبنان شخصيته المميّزة.   
أولاً، شرعية الكيان:  نازعت لبنان تيارات فكرية متعددة لم يرتكز أي منها إلى منطلق ديني أو مذهبي. وفي هذا نجح الوطن اللبناني في امتلاك حقيقة شرعية تجسّدت في دولة لبنان الكبير منذ 1920. ولقد ظهرت فيه قوميات ثلاثة - لبنانية وسورية وعربية – وُلدت وازدهرت لتصبح جزءاً من النشاط الفكري اللبناني، وهو ما انفرد به لبنان دون الدول العربية الأخرى. واعتباره كياناً مصطنعاً هو خاطىء لأنّ لبنان هو ثمرة تراكم قرون من العادات والتقاليد وتعايش جميع الفئات الدينية والاثنية على أراضيه. والتاريخ لا يسجّل الأماني ولا النيات بل الأفعال والوقائع. فالتراكم الذي أوجد لبنان لن يختفي حتى لو تعرّض لبنان لغزو خارجي لا يقدر على مواجهته. إذ حتى لو أدّى الحصار الاقتصادي الحالي إلى انحسار سيادة الدولة اللبنانية وتآكل سلطة الدولة على أرضها، فإنّ التقارب الشعبي بين اللبنانيين يعيد التوازن إلى الدولة والسيادة. ولقد ثبت مراراً في الماضي أنّ انهيار الحكومة اللبنانية لا يؤدي إلى غياب الدولة أو زوال لبنان.  
ثانياً، أسطورة لبنان التاريخية: احتاجت الفكرة اللبنانية إلى بعد تاريخي لدعمها. ولذلك ظهرت كتابات خلقت مكتبة متينة عن جذور تاريخ لبنان. ومن الذين لعبوا هذا الدور فيليب حتّي (لبنان في التاريخ) وكمال الصليبي (تاريخ لبنان الحديث). فكان كتاب حتّي عن لبنان عام 1946 أول محاولة موثـّقة أعطت لبنان وثيقة تثبت البداية قبل ستة آلاف سنة. وخلق أسطورة تاريخ لبنان خفّف من المنحى الأوروبي الذي زرعته فرنسا وأنّ للبنان ميزّات خاصة نعم ولكنّه يشارك محيطه وخاصة في سورية وفلسطين في الثقافة والتاريخ والجغرافية. وإذا كان العربي هو من يتكلم العربية كلغة أم ويعيش في المناخ الثقافي العربي العام، مسيحياً كان أم مسلماً، فإنّ كل اللبنانيين باستثناء الأرمن هم أولاد عرب، إما بأصلهم القبلي أو بإرثهم اللغوي الثقافي. فالكل من أهل جبل وسهل وساحل وجنوب وشمال يفخرون بكرم الضيافة العربية والشرف والكرامة والأخلاق الاجتماعية والروابط العائلية (فلا يعقل أن يكون الأمير فخرالدين قد نسي نسَبَه الشريف إلى قبيلة عربية). واللبنانيون لا يتكلمون غير العربية كلغة أم، رغم تراثهم السرياني، ومثقفو لبنان والمسيحيين منهم بشكل عام انقذوا اللغة العربية من الاضمحلال. واستقلال لبنان عام 1943 هو أمر راهن لا جدال فيه، كما أنّ تاريخه الذي سبق العام 1920 هو أيضاً لا جدل فيه. بل إنّ التعرّف بالتاريخ العتيق يزيد من ثقة اللبناني بنفسه ويؤكد على صدقية الكيان.  
ثالثاً، وضع لبنان الراهن: أعطى لبنان الكبير رغم صغر سنّه نسبياً العالم الصورة الحضارية والمزيج الثقافي كأفضل نموذج لما يمكن أن تكون عليه المواطنية في المجتمعات المعاصرة وكمساهم بارز في النتاج الثقافي واللغوي العربي. أولاً، على الصعيد الثقافي، أنّ النهضة الثقافية العربية بدأت كنواة قوامها بيروت وحلب والقاهرة ثم انطلقت إلى بقية المدن العربية. ولكن بيروت بزّت بعد ذلك كل مدن العرب في حجم ونوعية مساهماتها في النهضة، سواء في انتاج القواميس العربية وعدد الشعراء والأدباء وصناعة الصحافة العربية. حتى إنّ أولى الصحف الصادرة في القاهرة كـالأهرام مثلاً، والمجلات والجمعيات العلمية والمؤسسات التعليمية وطباعة الكتب، كان على رأسها لبنانيون. وبيروت استمرّت في ريادتها حتى مطلع الحرب عام 1975 ثم بقيت عروساً لحضارة العرب فكلما انفجرت بيروت بكت العواصم. وعلى الصعيد السياسي والاجتماعي، تمسّك لبنان بنظامه الديمقراطي الحر – رغم عيوبه وبخاصة في الثغرات الطائفية. فهو البلد العربي الوحيد الذي يشهد تغييراً دورياً في البرلمان والحكومات ومناصب السلطة الأولى. ولا يزال يعيش تجربة تعددية حزبية قلّ نظيرها حتى في أوروبا. وفي لبنان أيضاً تنوّع ملحوظ في الجمعيات والأحزاب، والحياة السياسية والاجتماعية صاخبة وتثير فضول المراقب الخارجي. فالحرية هي رسالة لبنان. 
وعلى الصعيد الاجتماعي، حتى في أشد سنوات الحرب ظلاماً من 1975-1990، لم ينهَر التلاقي الاجتماعي اللبناني وبقي ثمّة حد أدنى من التعاضد. لقد ظنّ كثيرون أنّ لبنان يحتاج إلى عشرات السنين ليلتئم ويعود إلى سلمه الأهلي. ولكن رغم الأزمات التنوّع في المذاهب موجود في كل مناطق لبنان والزواج المختلط بات شأناً عادياً حيث تجاوز عدد الزيجات المختلطة بين مسلمين سنّة ومسلمين شيعة المليون شخص، وبين مسلمين ومسيحيين المائة ألف، في حين تشكّل مدينة بيروت أكبر حالة تنوّع مذهبي في العالم. وثمّة حياة مدنية لبنانية ناجحة، سواءً في مجالات الثقافة والفنون والإعلام، وفي النوادي والأحزاب وأمكنة العمل سواءً في الإدارات الرسمية وشبه الرسمية والمؤسسات الخاصة وتزايد في الصداقات المختلطة في الجامعات والمدارس.
وأخيراً، تبقى نواقص تحتاج إلى عمل متواصل معظمها في الفساد والمحاصصة في مؤسسات الدولة والإدارة العامة، ومعالجة وضع المالية العامة وخاصة الدين المتفاقم، ووضع النقد الوطني وفك ارتباطه عن الدولار الأميركي، وتنويع القاعدة الاقتصادية خارج الريع والخدمات ونحو الصناعة والزراعة، وتعزيز المحاسبة والنظام الضريبي وجعله تصاعدياً وبناء دولة الرعاية المدنية وأساها برنامج صحي عام وضمانات أمومة وبطالة وشيخوخة.