قضية البلوك 72 "الإسرائيلي": ليس اعتداء ..
لكنه "لغم" بملف الترسيم والمكامن المشتركة

07.07.2020
Twitter icon
Facebook icon
LinkedIn icon
e-mail icon
شارك هذه الصفحة مع آخرين
Print Friendly, PDF & Email
عمر عبد الخالق

أعلنت إسرائيل عن فتح دورة تراخيص جديدة في البلوك 72 المحاذي للحدود اللبنانية، وجاءها الرد اللبناني صاعقاً مزلزلاً... "لن نتخلى عن أي شبر من ترابنا ولا عن أي نقطة ماء من بحرنا"... وأحيينا سوق عكاظ لنبلغ "أبا هند" بأن "ظهر البحر نملؤه سفينا"، ولنحذره هو وكل داعميه بأن "صبينا" قد بلغ الفطام فلتخر "له الجبابر ساجدينا"... ولكن قبل أن تأخذنا حمية المعارك الوهمية "ونشظي" بسيوفنا كل "طواحين الهواء"... فليكلف أحداً خاطره دارسة الخطوة الإسرائيلية لنتبين أنها روتينية ولا تشكل اعتداء على لبنان ، ولكنها شديدة الخطورة في توقيتها وفي أبعادها خصوصاً تلك المتعلقة بترسيم الحدود والمكامن المشتركة. 

وبانتظار ان تخرج الحكومة من "نظم الشعر وقد المراجل"، لتتخذ الإجراءات والقرارات اللازمة لمواجهة الخطوة الإسرائيلية، فإننا نسمح لأنفسنا "بخلع طربوش" الصحافيين لنعتمر "برنيطة" الخبراء والمستشارين ونحاول شرح أبعاد هذه الخطوة. 

في الشكل: لا إعتداء على لبنان 

- الإعلان الإسرائيلي يتعلق بفتح دورة تراخيص في البلوك 72، تنتهي في 23 سبتمبر المقبل، ويتم فض العروض، في حال وجودها، في 26 أكتوبر، ليصار بعدها إلى توقيع عقد مع الشركة أو الكونسورتيوم الفائز. وهذا البلوك كما توضح الخريطة المنشورة في الوثيقة الرسمية لاستدراج العروض، يقع بالكامل ضمن المياه البحرية الإسرائيلية وليس ضمن المنطقة المتنازع عليها مع لبنان، ويعني ذلك أنه ليس هناك اعتداء من وجهة نظر قانونية على لبنان، والمسألة ليست حفر وتنقيب كما أعلن المسؤولون اللبنانيون، ولا هي "إعلان حرب" بالطبع. 

- البلوك 72 (ألون دي) جرى تلزيمه منذ العام 2009، لتحالف شركتي ديليك الإسرائيلية ونوبل إنيرجي الأميركية، وعلى الرغم من تمديد الترخيص، إلا أنه لم يتم حفر أي بئر استشكافية فيه وتم الاكتفاء بعمل مسوحات ثنائية وثلاثية الأبعاد. وقد انتهت صلاحية العقد في 20 إبريل 2020. وعليه فإن "إسرائيل" تعتبر فتح دورة التراخيص، مجرد استكمال لمسار موجود أصلاً، ولم يكن موضع اعتراض من الحكومات اللبنانية المتعاقبة. إذن "حفلة الزجل" لم يكن لها داع، وكنا كمن يقاتل في الميدان الخطأ. 

في المضمون: لغم "بالريموت كونترول"

تتمثل خطورة الخطوة في أنها تؤكد الجهد "الإسرائيلي" الدؤوب والمتدحرج لاستكمال الأرضية القانونية والإجرائية لمحاصرة لبنان لتحقيق واحد من هدفين؛ الأول دفعه إلى ترسيم حدوده البحرية الجنوبية تبعاً للتصور الأميركي (خط هوف) وبمعزل عن ترسيم الحدود البرية، واستكمالاً، دفعه إلى توقيع اتفاقية لتقاسم المكامن المشتركة كما فعلت "إسرائيل" مع قبرص في حقل أفروديت. أما الهدف الثاني والذي تصح تسميته (الخطة ب) فهو تنفيذ الحفر وبدء الانتاج حتى لو من مكامن مشتركة، أي تنفيذ عملية نهب منظمة للموارد اللبنانية. وتشير تقارير عدة إلى أن التكوين الجيولوجي للبلوك 72 وحقل كاريش "الإسرائيلي" والبلوك 9 اللبناني يضم مخزونات شبه مؤكدة من الغاز والنفط. ما يعني أن دورة التراخيص وتلزيم البلوك 72 هو "لغم إسرائيلي" يعمل "بالريموت كنترول" قابل للاستخدام في أي لحظة تبعاً لتطور ملف ترسيم الحدود وتوقيع اتفاقيات تقاسم انتاج المكامن المشتركة مع لبنان.

  هل هناك دلائل ووقائع تثبت هذا الاستنتاج؟ 

نعم، وهي موجودة في النص الرسمي لوثيقة استدراج العروض، والمنشورة على موقع وزارة الطاقة "الاسرائيلية"، وحبذا لو تبادر الحكومة اللبنانية إلى "تشكيل لجنة" للاطلاع عليها ودراستها. ونكتفي هنا بالإشارة إلى ثلاث مسائل؛ الأولى، الإصرار على التلزيم مع منع الحفر، الثانية تقاسم المكامن المشتركة، والثالثة الفوز المتوقع لشركة إسرائيلية بالعقد.

 

 

ممنوع الحفر إلا بإذن خطى!!! 

تكشف الوثيقة الأبعاد السياسية والأمنية والقانونية لاستكمال ملف الضغوطات على لبنان ومحاصرته. فقد تضمنت نصوصا واضحة وفي أكثر من خمسة مواضع، تمنع الشركة الفائزة بالترخيص من بدء الحفر إلا بموجب موافقة مسبقة وخطية من السلطات المعنية، وهو أمر مستغرب في اتفاقيات الاستكشاف والانتاج، إذ تميل الدول عادة إلى الضغط على الشركات لتعجيل وتكثيف عمليات الحفر وليس العكس.

فقد نصت المادة 1/17 على: "يؤكد حامل الترخيص علمه أن منطقة الترخيص تقع بالقرب من الحدود الشمالية للمنطقة الاقتصادية الخالصة "لدولة إسرائيل"، ما يعني ان المصالح السياسية والأمنية "لإسرائيل" ، قد يكون لها تأثير سلبي على الأنشطة المحتملة".

وإذا استعصى فهم المقصود، فإن المادة 2/17، شرحته بشكل "فج وصريح" فنصت على أنه "لا يجوز التنقيب عن الهيدروكربونات في منطقة الترخيص، إلا بعد الحصول على موافقة مكتوبة، وليس هناك ما يضمن منح هذه الموافقة في المستقبل تبعاً للاعتبارات السياسية والأمنية". 

تقاسم المكامن المشتركة 

ونأتي إلى المادة 3/17 ، والتي تستأهل لوحدها تشكيل "لجنة مستقلة" لدراستها، فتنص على انه "في حال اكتشاف مكمن هيدروكربوني عابر للحدود ، فإن أي نشاط يتعلق بتطويره يخضع لقرار وموافقة السلطات المعنية. وذلك تبعاً للخيارات المتاحة مثل إبرام اتفاقية للتطوير المشترك للمكمن، وبعد الحصول على موافقات إضافية من سلطات حكومية أخرى (الأرجح ان تكون الجيش والمخابرات، وزارة الخارجية ورئاسة الحكومة إلخ..) وتنص المادة على حق "دولة إسرائيل" في التوقيع أو عدم التوقيع على أي اتفاقية دولية بهذا الخصوص، وفقًا لاعتبارات سياسية وأمنية... نحن لم نفهم، حبذا لو تتكرم الحكومة بإفهامنا.

من سيفوز بالترخيص؟ 

لا نريد استباق الأمور ولكن هناك مؤشرات ومعطيات على أن العقد سيكون من نصيب شركة ديليك الإسرائيلية بالأشتراك مع إحدى شركاتها التابعة كبديل لشركة نوبل أنيرجي الأميركية. والسبب المنطقي لذلك ان الشركة الإسرائيلية ليس لديها مشكلة في التناغم مع التوجهات الحكومية بالحفر أو عدم الحفر أو بالحفر والنهب إذا تطلب الأمر، وهو أمر ليس سهلاً على شركة دولية حتى لو كانت أميركية. ونلفت نظر "اللجنة الحكومية" بعد تشكليها إلى التنبه إلى ملابسات محاولة شركة نوبل إنيرجي الانسحاب من الترخيص السابق بسبب رفض إسرائيل السماح بالحفر، وإعلان توصلها إلى اتفاق على بيع حصتها لشركة تابعة لديلكيك، ولكنها تراجعت في آخر لحظة عن التنفيذ، بعد ضغوط عليها، ومطالبتها بالانتظار حتى موعد انتهاء العقد في إبريل 2020، ليأتي انسحابها طبيعياً. ولتتنبه اللجنة الكريمة "للالتماس الذي قدمته الشركتان إلى المحكمة العليا مطالبة بعدم فتح دورة التراخيص"، والمنشور في نص الاعلان عن الدورة  (البند 3/5 صفحة 7).

ومن المعطيات الجديرة بالذكر هنا، أن دورة التراخيص "الإسرائيلية" لن تكون موضع اهتمام الشركات الدولية التي قلصت استثماراتها بشكل دراماتيكي، وبخاصة في مناطق متنازع عليها أو تشهد اضطرابات سياسية وأمنية كإسرائيل وقبرص ولبنان. نحن فهمنا... أنشالله يكون من يعنيهم الأمر فهموا، أن ملف النفط والغاز يحتاج إلى مقاربات مختلفة.

ملف يحتاج إلى حوار وطني 

ملف النفط والغاز هو الأمل الحقيقي على المديين القصير والمتوسط، وربما هو الملف الرئيسي الذي يستوجب عقد طاولة حوار وطني وتحديد إطار عمل للتعاطي معه وحل المسائل العالقة ومنها على سبيل المثال:

1. إنجاز ملف ترسيم الحدود البحرية وتحديد المنطقة الاقتصادية الخالصة للبنان، لنعرف على ماذا نفاوض سواء مع سوريا وقبرص أو مع "إسرائيل". ولنترك سوريا وقبرص الآن، لنسال هل الترسيم المعتمد والصادر بمرسوم في العام 2011 والمتعلق بالحدود الجنوبية، نهائي؟ أم يستوجب إعادة نظر بعد التطورات المتعلقة بالنقطة البرية B1، التي تمكن الجيش اللبناني في مارس 2018، بالتعاون مع اليونيفيل من تثبيت لبنانيتها، ما يعني إضافة نحو 17 كلم عند خط النهاية إلى المنطقة الاقتصادية الخالصة اللبنانية. وهل صحيح ان هناك خطيئة ارتكبت في ترسيم الحدود ، تمثلت باحتساب "صخرة" تاكيلت Tekhelet  كامتداد للبر الإسرائيلي وتم التعامل معها على أساس ما يعرف بقانون البحار بـ "التأثير الكلي للجزر" في ترسيم الحدود، وهو الأمر الذي قدم "لإسرائيل" "هدية" مساحتها بنحو 850 كلم2، تضاف إلى "الهدية" السابقة ومساحتها حوالي 860 كلم2. ما يعني لو صح ذلك ان البلوك 72 "الإسرائيلي" وكذلك جزء من حقل كاريش هما ضمن المياه اللبنانية. راجع مقال: "غاز لبنان وترسيم "الحدود: "أخطاء" و"خطايا"

 2. اذا كان ميزان القوى يميل إلى صالح "إسرائيل"، حالياً، هل يمكن لقيادات وأحزاب وطوائف لبنان ان تنسى "خلافاتها وحرتقاتها الاستراتيجية" للحظة واحدة، وتتوافق على اعتبار مسألة الغاز وترسيم الحدود الجنوبية أولا والشمالية والغربية ثانياً قضية مصيرية. وأن تتوافق على عناصر القوة التي يمتلكها لبنان، والمتمثلة إضافة الى قوة القانون الدولي، بقوة الجيش اللبناني مدعومة بالقوة الصاروخية لحزب الله التي تشكل تهديداً جدياً "لإسرائيل" يمنعها حتى الآن من نهب الموارد المياه اللبنانية ويجبرها على تضمين تراخيص الاستكشاف والانتاج "بنود منع الحفر"، ولا يقلل من هذه الحقيقة وجود خلاف عميق حول دور سلاح حزب الله في السياسة المحلية. 

الشركات والتفاوض حول المكامن المشتركة 

3. إن مثل هذا التوافق يحصن المفاوض اللبناني خصوصاً تجاه المزايدات الداخلية، لأنه يضع إطاراً للتفاوض وسقفاُ للتنازلات الممكنة، بما في ذلك احتمال القبول "بمبادرة هوف" التي تعيد إلى لبنان حوالي ثلثي المنطقة المتنازع عليها، وتعتبر الثلث المتبقي منطقة متنازع عليها. وبما في ذلك أيضاً، البحث في تقاسم المكامن المشتركة، وهناك اقتراحات جدية جديرة بالبحث كأن تتولى الشركات المشغلة عملية التفاوض وتقاسم الانتاج فلا يضطر لبنان للدخول بمفاوضات مباشرة مع "إسرائيل"، وبالمناسبة يوجد نص في قانون الموارد البترولية في المياه البحرية يتيح ذلك (المادة 38). 

وبمثل هذه المقاربة يمكن إعادة وضع قطار النفط والغاز على سكة التنفيذ والاستفادة من العمل المهني الرفيع الذي أنجز على مستوى التشريع والتنظيم. وبمثل هذه المقاربة يمكن إقناع تحالف توتال، إيني، نوفاتك، بتنفيذ التزاماته بالحفر في البلوك رقم 9 في شهر مايو 2021، حيث تشير الدلائل إلى أنه لن يقدم على ذلك، ويبحث حالياً إما التحضية بقيمة الضمانة التي دفعها وقدرها 40 مليون دولار، وإما تبرير عدم الحفر بحجة "القوة القاهرة". 

ربما تكون فرصتنا الأخيرة قبل أن يخرج ملف ترسيم الحدود والغاز عموماً، من أيدي اللبنانيين ليصبح مجرد ورقة في بازار التسويات الإقلمية والدولية، ولننتبه جيداً إلى أن حروب الإفقار قد تكون أشد فتكاً بعناصر قوة لبنان من الحروب العسكرية، والتي قد تضطرنا للتخلي عن "أشبار ترابنا ونقاط ماء بحرنا"، هذا إذا لم نضطر إلى نظم قصائد المديح "بأبي هند".