أسعار النفط:
حرب مدروسة لتغيير المعادلات

24.03.2020
Twitter icon
Facebook icon
LinkedIn icon
e-mail icon
شارك هذه الصفحة مع آخرين
Print Friendly, PDF & Email

كتب ياسر هلال  

لأول مرة تكون الصورة في أسواق النفط على هذا القدر من التعقيد والتشابك والسريالية. ففي حين كان "كورونا" يجتاح العالم خالقاً أزمة ركود عميقة وممتدة، وتراجع غير مسبوق في الطلب على النفط، كانت الدول المنتجة تنهي اتفاق دول (أوبك +) وتندفع للانتاج بأقصى طاقاتها لتغرق الأسواق بإلامدادات ويهوى السعر إلى قاع قد يكون بعده قاع أعمق. ولتكتمل سريالية الصورة، نلاحظ أن اللاعبين الرئيسيين أي السعودية وروسيا وأميركا وهم أكبر الدول المنتجة، تتقاطع مصالحهم عند نقطة خوض غمار حرب أسعار. حيث يرى كل منهم أنها تخدم مصالحه في هذه اللحظة المفصلية، وأنه الأقدر على الانتصار فيها وتحقيق أهدافه. وتتراوح هذه الأهداف بين إنهاء "دور المنتج المرن" ووقف "الابتزاز" بالنسبة للسعودية، بناء المخزونات والانتخابات بالنسبة لأميركا، وضرب النفط الصخري الأميركي بالنسبة لروسيا. 

هل هذه الأهداف قابلة للتحقيق، وبأي ثمن، وهل ستكون حرباً خاطفة أم  "يبقى الوضع كما هو عليه لمدة طويلة، وعلى المتضرر اللجوء إلى الصراخ"... ولننتظر من يصرخ أولاً؟  

 قبل الشرح ولتوضيح سريالية الصورة، نبدأ من حقيقة معروفة للجميع، وهي وجود فائض في السوق منذ العام 2014 ، وتمت السيطرة عليه نسبياً من خلال (اتفاق أوبك +) في نهاية العام 2016، الذي قضى بخفض الإنتاج بمعدل 1.8 مليون برميل يومياً (1.2 مليون برميل منها تتحملها دول الأوبك). ونجح الاتفاق بمضاعفة الأسعار لتستقر عند حدود 70 - 80 دولاراً لأكثر من عامين. وكان الجميع سعيداً بذلك حتى أميركا التي تكن عداء تاريخياً لأي تكتل أو اتفاق بين المنتجين. والغريب ان هذا الفائض كان واضحاً أنه مرشح لزيادة كبيرة بظل انتشار فيروس "كورونا" ودخول العالم في مرحلة ركود. ما يعني انه كان من المفترض ان يتم تثبيت بل توسيع اتفاق (أوبك +) وليس إلغاءه.

إذن لماذا تم إلغاء اتفاق (أوبك +)، وكيف يحقق انهيار أسعار النفط مصالح المنتجين؟! 

لنحاول الشرح انطلاقاً من الأهداف التي رسمتها كل دولة وقدرتها على تحقيقها:

أهداف أميركا: الانتخابات والمخزون 

يحقق انخفاض الأسعار هدفا عزيزاً على قلوب الأميركيين وعلى قلب الرئيس دونالد ترامب في موسم الانتخابات، وهو تخفيض أسعار الوقود للمستهلكين. فانخفاض سعر البرميل بمقدار 10 دولارات يعني انخفاض سعر غالون الوقود بحوالي 25 في المئة. كما يسمح تخفيض السعر لأميركا بإعادة بناء مخزونها الإستراتيجي من النفط "على رخيص". وقد أمر الرئيس ترامب ببدء إعادة بناء هذا المخزون فوراً، وسارعت وزارة الطاقة للاعلان أنها ستشتري 77 مليون برميل من النفط. ويقدر ان تعبئة الخزانات تستوعب حوالي 685 ألف برميل يومياً. وتوقعت شركة "فيتول لتجارة النفط" أن تستغرق عملية إعادة بناء المخزون في أميركا وبقية دول العام حوالي شهرين.

أميركا تراقب والهدف بناء المخزونات والانتخابات

يضاف إلى كل ذلك سبب بالغ الأهمية وهو أن تدهور الاسعار يساهم بشكل جدي في التخفيف من حدة تداعيات الركود الاقتصادي في أميركا والعالم، والذي بات اشبه بكارثة أقتصادية بظل تفشي "جائحة كورونا". 

هل تنتصر ؟

مقابل تلك المكاسب، فإن انخفاض اسعار النفط يلحق ضرراً بالغاً بمنتجي النفط الصخري في أميركا. وقد يواجهون إذا طالت فترة تراجع الإسعار تهديداً جدياً بالخروج من السوق، نظراً لأرتفاع تكلفة انتاج النفط الصخري والتي تقارب 35 دولاراً للبرميل. ولذلك فمن المرجح أن تترك الولايات المتحدة الأمور تأخذ مجراها، طالما أنها تستطيع تحمل الخسائر. على أن "تتدخل في الوقت المناسب" كما أعلن الرئيس ترامب في مؤتمر صحافي، والمرجح أن يأخذ تدخلها شكل ممارسة الضغوط على السعودية وعلى روسيا لتخفيض الانتاج. كما يوجد لدى الإدارة الأميركية أسلحة احتياطية قد تلجاً لاستخدامها، مثل فرض رسوم جمركية على واردات النفط والغاز مع التضحية برفع أسعار المحروقات. أو تقديم دعم مباشر لصناعة النفط والغاز المحلية، وهو الخيار المفضل لدى ترامب، لأنه يحقق حماية هذه الصناعة دون رفع أسعار المحروقات، فيكسب أصوات المنتجين والمستهلكين.

أهداف السعودية: ضمان تسويق نفطها

يحقق تخفيض السعر هدفاً عزيزاً على قلب ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، وهو وضع حد نهائي للدور الذي فرض تاريخياً على المملكة والمعروف بـ "المنتج المرن" حيث تقوم المملكة بتخفيض إنتاجها بأكثر مما تنص عليه اتفاقيات تقاسم الانتاج بين دول الأوبك ولاحقا بين دول (أوبك +) لحماية هذه الإتفاقيات ولتغطية عدم إلتزام الدول الأخرى بالاتفاقيات. بل بالعكس كانت هذه الدول تستغل تخفيض الانتاج السعودي لتنتج بأقصى طاقاتها تقريباً. ويتضح ذلك من مجريات المباحثات التي جرت قبل انهيار اتفاق (أوبك +)، فمبجرد رفض روسيا عرض السعودية تخفيض الانتاج بمقدار 1.5 مليون برميل يومياً للحفاظ على توازن السوق، جاء الرد سريعاً وصاعقاً بإعلان إلغاء الاتفاق والإيعاز إلى شركة أرامكو بزيادة انتاجها إلى 13 مليون برميل يومياً، ومن ثم إلى 13.5 م/ب/ي، واستتباع ذلك بتخفيض الأسعار، مع الإعلان عن بدء ضخ النفط بأقصى طاقة اعتبارا من أول أبريل. 

السعودية تبادر والهدف إنهاء دور "المنتج المرن" وحماية أسوقها

والرسالة واضحة لمن يريد القراءة وهي أن "زمن المنتج المرن" انتهى، وأن هناك قواعد جديدة في التعامل مع السعودية. 

ولفهم الدوافع السعودية بشكل أدق، تجدر الإشارة إلى مسألة بالغة الأهمية، وهي أن استمرار ارتفاع الأسعار، يشجع الشركات والدول على التوسع في علميات الاستشكاف والتنقيب والتطوير، لزيادة طاقاتها الانتاجية. وهو الأمر الذي يقلص مستقبلاً قدرة السعودية التي تمتلك أعلى طاقة انتاجية على الإطلاق، على الاستفادة من ارتفاع الطلب حين يحصل. يضاف إلى ذلك أن السعودية تأخذ بالاعتبار تأثير العودة المرتقبة لنفط كل من فنزويلا، ليبيا، إيران والعراق على المعروض في سوق النفط، وهي عودة تلعب أميركا وروسيا دوراً أساسياً في تقرير  ان تكون "عاجلة أو آجلة".

هل تنجح بتحقيق أهدافها ؟

تؤدي حرب الأسعار إلى تحميل السعودية خسائر مالية كبيرة ستؤثر سلباً على تمويل خططها الطموحة لتنويع الاقتصاد في إطار رؤية 2030، كما تؤدي إلى مفاقمة عجز الموازنة خاصة وان سعر التعادل المعتمد في الموازنة هو بحدود 75 دولارا للبرميل.

ولكن بالمقابل، يبدو واضحاً ان المملكة قادرة على الصمود وتحمل هذه الخسائر بل تعويض جزء كبير منها، فهي الدولة الوحيدة التي بإمكانها زيادة انتاجها بحيث تعوض قيمة الزيادة قسماً كبيراً من الخسائر الناجمة عن تراجع السعر. ويجب ان لا ننسى أن السعودية تمكنت خلال أزمة 2014 من استيعاب تراجع السعر من حوالي 115 دولار للبرميل إلى 27 دولار، وكذلك في أزمة 2008 حين هوت الأسعار من 147 إلى 40 دولاراً ًللبرميل.

أهداف روسيا: ضرب النفط الصخري الأميركي

يسهم تخفيض الأسعار بتحقيق الهدف العزيز جداً على قلب الرئيس فلاديمير بوتين وهو إخراج النفط الصخري الأميركي من المعادلة، وتوجيه ضربة قوية لقدرة صادرات النفط والغاز الأميركية على منافسة النفط والغاز الروسي في سوق الطاقة الأوروبية التي يعتبرها "عقر داره". 

لكنه بالوقت نفسه يلحق ضرراً كبيراً بالموارد المالية الروسية ويخلق حرب أسعار مع المملكة العربية السعودية، ما يؤدي إلى الإضرار بالعلاقات المتنامية بين البلدين والتي بذل الرئيس بوتين جهوداً مضنية لتعزيزها ورعايتها.

تبدو روسيا قادرة عل تحمل سعر منخفض للنفط، لأن إيرادات النفط والغاز لا تشكل أكثر من 40 في المئة من إيرادات الموازنة. كما أن موازنة العام 2020 بنيت على أساس سعر تعادل للنفط بحدود 45 دولارا للبرميل. يضاف إلى ذلك امتلاكها لاحتياطات ضخمة من الأصول الأجنبية تقدر بحوالي  600 مليار دولار.

ولكنها بالمقابل فهي الأقل قدرة على تحقيق أهدافها بتوجيه ضربة قاصمة للنفط الصخري، وتقليص الصادرات الأميركية إلى أوروبا. 

أما بالنسبة للوضع المريح الذي كانت تنعم به بالنسبة لصادراتها من النفط والغاز، في ظل اتفاقية (أوبك +)، فيبدو أنه قد انتهى، وستتم الأمور مستقبلاً خاصة مع السعودية على قاعدة "تقاسم الغنم والغرم".  وقد ينسحب ذلك على علاقتها السياسية والاقتصادية مع الرياض وربما بقية دول الخليج. إذ ترى هذه الدول أن موسكو لا تستطيع أن تبدي عدم ارتياحها لعدم تحقق توقعاتها بأن تقوم الرياض تحديداً بضخ مليارات الدولارات من الاستثمارات في الاقتصاد الروسي وأن تشتري السلاح من روسيا، وأن تدعم سياساتها في سوريا. في حين تواصل موسكو تقديم الدعم الكامل لإيران وتعزيز علاقتها مع تركيا. 

قاع السعر 

جرت العادة ان يحفز انخفاض السعر شهية الاستهلاك، ولكن في ظل تداعيات "كورونا" واستمرار تدفق الإمدادات، يبدو أنه ليس هناك قاع لتراجع السعر، فبعض شركات السمسرة وبيوت الخبرة تتوقع ان يواصل رحلة التراجع. ولا تستبعد جيسون غامبل من شركة جيفزيز مثلاً أن يصل السعر إلى 10 دولارات أو ربما أقل، إذا أصر أطراف الحرب على مواصلة القتال.

ولما كان أحد أهم العوامل المحددة لمسار الأسعار هو حجم الطلب والاستهلاك، فإن الصورة تبدو ضبابية إلى حد بعيد في ظل التداعيات غير المعروفة لتدابير احتواء "كورونا" ولكن المؤكد ان التراجع لن يقل عن 10 ملايين ب/ي من أصل الاستهلاك العالمي البالغ 100 مليون برميل، وهو رقم مرشح للزيادة. وتوقعت ستاندرد تشارترد ان يتراجع متوسط الطلب في 2020 بواقع 3.4 م/ب/ي، مسجلا رقماً قياسياً بعد الهبوط التاريخي في العام 1980 والبالغ 2.71 م/ب/ي.

ونقلت رويتز عن مسؤولين في شركات سمسرة في لندن أن موجة تراجع الطلب العاتية، تعادل خمسة أضعاف إمدادات النفط في الربع الثاني وهذا الوضع سيصيب منتجي النفط خاصة المرتفع التكلفة بألم شديد وأن يؤدي إلى تعالي الصراخ...

من يصرخ أولاً ؟

من المرجح أن يعلو صراخ كافة الدول المنتجة من داخل أوبك وخارجها، خاصة الدول ذات الإنتاج مرتفع التكلفة والمعتمدة بشكل كبير على إيراداتها النفطية لتمويل ميزانياتها العامة. وستواجه هذه الدول مشكلة كبيرة في تمويل عجز ميزانياتها، خاصة وان المعدل الوسطي لسعر التعادل المعتمد لبرميل النفط في دول الأوبك، هو بحدود 95 دولار، ويتراوح بين 83 دولار في الكويت، يرتفع إلى 120 دولار في العراق ليصل إلى أكثر من 150 دولار في إيران ونيجريا.

شركات النفط العالمية المتضرر الأكبر والأعلى صراخاً

 أما الأعلى صراخاً فستكون الشركات النفطية العالمية التي وصف تحليل لشركة "ريستاد إنرجي" تداعيات هذه الحرب عليها بـ " "تسونامي نفطي سيغير وجه القطاع لسنوات طويلة". حيث سيكون همها الوحيد هو حماية رؤوس أموالها وتجنب شرور التعثر المالي بل الإفلاس. ولذلك باشرت هذه الشركات فوراً بإجراء تخفيضات كبيرة في النفقات وبخاصة النفقات الاستثمارية. حيث أعلنت كبريات الشركات مثل إكسون وتوتال وإيني عن إلغاء أو تأجيل العديد من المشاريع. وذكر تقرير لـ "سيتي بنك" أن "كل الشركات تلغي عقوداً الآن وأن حوالي 50 في المئة من مشاريع الاستكشاف والتطوير في البر والبحر تم تأجيلها".

 دول شرق المتوسط: دخول نادي الدول النفطية "حلم" مؤجل 

المرتبة الثالثة في شدة الصراخ ستكون من نصيب الدول التي "تحلم" بدخول نادي الدول النفطية، مثل دول شرق المتوسط (لبنان، قبرص، وإسرائيل) التي يرجح أن مشاريع الاستكشاف والتطوير فيها ستكون في مقدمة المشاريع المؤجلة من قبل الشركات.

 اللاعبون الكبار لن يصرخوا 

بالنسبة لللاعبين الثلاثة الكبار، فالصراخ ليس وارداً، فكل واحد منهم "حاسبها صح" ويعرف متى تبدأ الحرب ومتى يدخل فيها، ومتى وكيف تنتهي، وقد حدد كل واحد منهم خسائره سلفاً. والمرجح أن تنتهي هذه الحرب  كما انتهت الحروب السابقة بالتوصل إلى تسويات بحيث يخرج الجميع رابحون وخاسرون، كل حسب أهدافه وفعالية أسلحته وقدرته على الصمود.