الغائب - الحاضر
رفيق الحريري

14.02.2020
الرئيس الشهيد رفيق الحريري مكرماً الشيخ محمد بن رأشد آل مكتوم ويبدو إلى اليمين رؤوف أبوزكي (منتدى الاقتصاد العربي 2004)
الرئيس الشهيد رفيق الحريري خلال مؤتمر باريس 2
Twitter icon
Facebook icon
LinkedIn icon
e-mail icon
شارك هذه الصفحة مع آخرين
Print Friendly, PDF & Email

لا يزال رفيق الحريري في قلب أحداث وطنه. وبعد مرور 15 عاماً على استشهاده، هناك من يعود إلى سيرة الرجل ليس من أجل إنجازاته، بل لتحميله، تلميحاً أو تصريحاً، مسؤولية الأزمة الاقتصادية والمالية التي تعصف بلبنان حالياً.

وليس دفاعاً عن الرئيس الشهيد رفيق الحريري، لكن الموضوعية تقتضي العودة ولو باختصار، إلى الإنجازات الكبيرة التي حققها، وتوضيح حقيقة ما يتردد عما يسمى "السياسات الخاطئة" التي انتهجها الرجل، من دون الأخذ في الاعتبار مواصلة من تولى زمام الأمور بعد استشهاده، اعتماد هذه "السياسات الخاطئة".

أولى المغالطات التي تُرمى على رفيق الحريري أن مرحلته تبدأ من العام 1990، علماً أنها فعلاً بدأت اعتباراً من 31 تشرين الأول 1992، يوم كلفه الرئيس الياس الهراوي تشكيل الحكومة، بعد موجة احتجاجات شعبية واسعة خلال حكومتي الرئيسين عمر كرامي ورشيد الصلح.  

وإذا كانت هناك «محاكمة» موضوعية لمرحلة الرئيس الشهيد رفيق الحريري فإنها تبدأ في 1993 وتنتهي في 2005، مع مراعاة ظل ظروف جيوسياسية ومحلية تتلخص في الآتي:

1- تطبيق اتفاق الطائف وإرساء نظام سياسي جديد في ظل توافق دولي وعربي ورعاية سورية.

2- إعادة بناء بلد دمرته الحرب على مدى 15 عاماً، ويشمل ذلك إعادة بناء مؤسسات الدولة المدنية والعسكرية وعملية إنشاء وتأهيل شاملة للبنى التحتية التي دُمّرت بمعظمها.

3- ترميم وتوثيق علاقات لبنان العربية والدولية وإحياء حضوره ضمن دائرة الاهتمام الدولي.

"لنحاكم" الحريري

عندما تسلّم الرئيس الشهيد الحكم، لخص الواقع بقوله: «عندما أتينا إلى الحكم كان المسيطر على الجو السياسي أمران: الأول، إننا لا نستطيع القيام بشيء لعدم وجود مساعدات، والثاني، لا نستطيع تحقيق شيء لأن دورنا في المنطقة لم يتحدد.

كيف تعامل الحريري مع هذين الأمرين؟ الجواب أتى من خلال ورشة إعمار كبرى لم يشهد لها لبنان مثيلاً في تاريخه القديم والحديث: فعلى الرغم من المساعدات القليلة التي وصلت، وبديون ليست كبيرة، لأن غالبيتها ميسّرة ولآجال طويلة، انطلقت ورشة أعمال كبرى.

 فلنحاكم "مرحلة الحريري" .. ماذا نجد؟

في السياسة: تمكّن الحريري من إعادة بناء النظام السياسي بموجب روحية اتفاق الطائف ولكن تحت سقف الرعاية السورية والتوافق الدولي، وشمل ذلك العلاقة بين السلطات الثلاث، وإحياء مؤسسات ومرافق الدولة وملء الشواغر، كما تمكّن من إعادة لبنان إلى الخريطة العربية والدولية من خلال علاقاته الواسعة مع ملوك ورؤساء الدول وبخاصة الكبرى.

أيضاً تمكّن وبفضل علاقاته الدولية من ترتيب وضع حزب الله وتشريع المقاومة عربياً ودولياً، وخاصة بعد العدوان الإسرائيلي في 1996، مع الإبقاء في الوقت نفسه على علاقة لبنان بالدول الكبرى بما في ذلك الولايات المتحدة الأميركية، من دون أن ننسى الموقف السياسي الصلب الذي اتخذه الحريري من قضية المبعدين الفلسطينيين إلى مرج الزهور.

في الاقتصاد: حقق الحريري نجاحاً باهراً في إنجاز ورشة إعادة الإعمار وخلال فترة قياسية، وتمثل ذلك في إعادة بناء المطار والمرفأ وشق الطرقات وبناء الجسور داخل العاصمة وتشييد مبنى عصري للجامعة اللبنانية، وكذلك للمستشفى الحكومي إضافة إلى شبكة من المراكز الصحية في مختلف المناطق.

 كذلك تمكّن الحريري بفضل عودة الثقة بلبنان من استقطاب الاستثمارات اللبنانية والعربية والدولية، إلى مختلف القطاعات من السياحة والعقار إلى المال والمصارف وصولاً إلى الصناعة، وتحوّلت بيروت خلال مرحلة الحريري إلى عاصمة لمؤتمرات ومنتديات الاستثمار التي تجذب مئات رجال الأعمال والمستثمرين والشركات، إلى جانب قادة ورؤساء حكومات وكبار المسؤولين في الدول العربية والأجنبية، وكان منتدى الاقتصاد العربي الذي أطلقته مجموعة "الاقتصاد والأعمال" العام 1993 بالتعاون مع الرئيس الشهيد رفيق الحريري، والذي ما زال ينعقد سنوياً، وأحد أهم هذه المنتديات، حتى أن حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، قال: إن "غالبية الاستثمارات التي تدفقت إلى لبنان بعد الحرب ولدت من رحم هذا المنتدى". 

وفي هذا السياق، تجدر الإشارة إلى مؤتمري "باريس 1" و"باريس 2" اللذين حققهما الحريري بفضل علاقاته الدولية الواسعة، وتمكن لبنان من خلالهما الحصول على دعم دولي وإقليمي إلا أن عدم الإقدام على الإصلاح أضاع فرصة الإفادة من المؤتمرين.

أما على صعيد السياسة النقدية فقد تمّ التوافق على انتهاج سياسة تثبيت سعر الصرف بعد أن تراجع سعر صرف الليرة وخلال أيام قليلة من تشكيل الحريري لحكومته من 2900 إلى 1500 ليرة للدولار، وكانت ظروف لبنان الخارج من الحرب تقتضي اعتماد مثل هذه السياسة النقدية التي انعكست إيجاباً على تعزيز القدرة الشرائية للمواطنين، واستقطاب الاستثمارات والودائع إلى المصارف اللبنانية وربما كان مناسباً إعادة النظر في هذه السياسة بعد مرحلة الحريري وذلك ما لم يحصل.

إلى ذلك، يتعمد البعض إغفال الإنفاق الحكومي الذي حققه الرئيس الحريري في إعادة بناء وتجهيز القوى العسكرية والأمنية التي كانت أنهكتها الحرب الأهلية، إضافة إلى الصحة والتعليم. ولم يقتصر اهتمام الرئيس الشهيد بالتعليم على الإنفاق الحكومي، بل تعداه إلى الإنفاق الخاص، حيث وفر منحاً للدراسات الجامعية لأكثر من 36000 شاب وشابة من كل الطوائف اللبنانية على مدى 20 عاماً، مجسّداً اهتمامه "بالبشر قبل الحجر".

كذلك، نجحت حكومة الحريري إلى حد كبير في إعادة المهجرين في مختلف أنحاء البلاد بما فيها العاصمة بيروت.

أما إعادة إعمار وسط بيروت، فكان الرئيس يعتبره الإنجاز الأبرز الذي أعاد إلى بيروت هويتها مع شخصية دولية عصرية. 

الكهرباء

ربما هناك ممن يحسبون أنهم من مؤيدي الحريري، ورافقوه في مسيرته الحكومية، يتحدثون اليوم عن ثغرات رافقت هذه المسيرة في مجالات عدة، بينها قطاع الكهرباء الذي لا يزال عنواناً لمحنة لبنان المالية. ويقول هؤلاء، وبينهم وزراء في حكومتيّ الحريري في التسعينات، انه كانت هناك حلول لهذا القطاع، خصوصاً تلك التي أتى بها وزير الطاقة في حكومة الحريري الأولى المرحوم

جورج افرام، لكن الحكومة لم تأخذ بها بسبب ضغوط داخلية وسورية، ما أدى إلى إقالة الوزير افرام ونقل الملف إلى سلفه الياس حبيقة الذي أبرم العقد الشهير مع شركة "إنسالدو" الايطالية فلم يكن موفقاً. ويخلص هؤلاء الوزراء إلى القول: "بكل تأكيد كان الحريري يعلم ان افرام كان على حق، لكنه اضطر إلى الرضوخ للضغوط، ولو كان ذلك على حساب القطاع".  

الدين العام

وإزاء الإنجازات الكبرى التي حققها الحريري في الاقتصاد والإعمار، يبقى موضوع الدين العام الذي تدور حوله المقارنة بين وضعه خلال مرحلة الحريري وما بعدها.

وفي الواقع، كان الدين العام في نهاية 1993 نحو 4.6 مليارات دولار، وارتفع في نهاية 2004 إلى نحو 33.3 مليار، أي بزيادة نحو 28 مليار دولار، علماً أن رئاسة الحريري انقطعت ما بين العامين (1998 – 2000).

وفي المقابل، ومنذ استشهاد الرئيس الحريري في 14 شباط 2005 حتى اليوم ارتفع الدين العام من نحو 33 مليار دولار نهاية 2004 إلى نحو 90 ملياراً أو ربما أكثر في نهاية العام 2019، أي بزيادة قدرها 57 مليار دولار.

لكن هذه الفترة ورغم التراكم المطرد للدين العام لم تشهد أي تطوير يذكر في مشاريع البنى التحتية، وعليه، فإن الحقيقة تشير إلى أن الدين البالغ حالياً نحو 90 مليار دولار تراكم أكثر من 63 في المئة منه بعد استشهاد الرئيس الحريري. 

ميزان المدفوعات

يعتبر ميزان المدفوعات كما الدين العام، مؤشراً على سلامة الوضع الاقتصادي، وفي هذا السياق يشار إلى الآتي:

- سجّل ميزان المدفوعات حتى نهاية العام 2004 فائضاً متراكماً بلغ 3.9 مليارات دولار.

- في الفترة ما بين 2005 و2010 سجّل ميزان المدفوعات فائضاً تراكمياً بلغ نحو 20.3 مليار دولار، على الرغم من استشهاد الرئيس الحريري في العام 2005 وحرب تموز في العام 2006.

- اعتباراً من العام 2011 بدأ ميزان المدفوعات يسجّل عجزاً متراكماً وبلغ نحو 13 مليار دولار، وجاء هذا العجز متزامناً مع بدء الأزمة السورية وتداعياتها على الاقتصاد اللبناني وما رافقها من نزوح ومن تعكير للعلاقات اللبنانية – العربية.

ما بعد الحريري

إذا استمرت "المحاكمة" فإن الحقيقة تقول أن مرحلة الحريري قد انتهت في 14 شباط 2005. وما بعد ذلك مرحلة أخرى لا علاقة لها بـ الحريري بأي شكل من الأشكال ولا يمكن بالتالي وصفها بالسياسة الحريرية حتى ولو كانت بعض الفترات بقيادة سعد الحريري.

أما على صعيد آليات الحكم، فقد تكرّس منذ أحداث 7 أيار في العام 2008، منهج الديمقراطية التوافقية ومعها منهج الثلث المعطل.

وعليه، وإذا صح أن ثمة ما يسمى بالسياسات الخاطئة منذ 30 عاماً (هي ليست كذلك) فإن السؤال هو: ماذا تعني السياسات الخاطئة ولماذا لم تتغير بواسطة الذين تعاقبوا على الحكم؟ لذلك، أن تُعزى الأزمة الاقتصادية الراهنة إلى السياسة الحريرية يفتقر إلى الموضوعية والإنصاف. 

"الاقتصاد والأعمال"