مشروع "التدابير المصرفية الإستثنائية المؤقتة":
غزارة في العناوين وتقتير في التفاصيل

07.02.2020
Twitter icon
Facebook icon
LinkedIn icon
e-mail icon
شارك هذه الصفحة مع آخرين
Print Friendly, PDF & Email

بقلم: نديم مخيبر

 

تسرّب مؤخرا مشروع ما يسمّى بالتدابيرالمصرفية الإستثنائية المؤقّتة، وقد تراوحت صيغته بين إصداره بتعميم من حاكم مصرف لبنان (المركزي) بناء على قانون تشريعي يمنح حاكم هذا المصرف الصلاحيات الأستثنائية لهذه الغاية، أو بناء على نصوص عامة أساسية واردة  في قانون النقد والتسليف اللبناني يمكن بالتوسع حسب البعض في تفسيرها، إعتبار أنها تولي الحاكم المذكور مثل هذه الصلاحيات.

ويُستنتج من تصريحات المعنيين بإصدار هذه "التدابير" أن الجدل مستمرّ بشأن المرجع المعني بإصدار او إجازة إصدار مثل هذه التدابير، وأن المراجع المختلفة تتقاذف مسؤولية (ولا أقول صلاحية ، علما أن المراجع في لبنان غالبا ما تتنازع على الصلاحيات) إتخاذ التدابير المذكورة، و نتفهّم هذا التقاذف نظرا لأن هذه التدابير غير شعبية بمجملها.

التدابير المصرفية الاستثنائية لا تدخل ضمن صلاحيات حاكم المصرف المركزي

وبرأينا وباختصار أن هذه التدابير غير داخلة ضمن صلاحيات حاكم المصرف المركزي، من جهة أولى نظراً لما تتضمنه من تقييد لحركة الرساميل والودائع وما تناقضه من قوانين نافذة ترعى العلاقات المصرفية؛ و من جهة ثانية ومن وجهة منطقية، نظراً لأن الحكومة نفسها تحاذر مقاربة هذا الموضوع معتبرة ان صلاحية التصدي له تعود الى مجلس النواب بموجب إصدار قانون (ونحن بالمناسبة من هذا الرأي نفسه) ، فكيف لحاكم المصرف المركزي ان يعتبرها بعدئذ ضمن صلاحياته؟

مهما يكن من  أمر، فغايتنا من هذا التعليق، ليس التوسع في البحث القانوني حول صلاحية إصدار هذه التدابير، بل بالأحرى، الإشارة بعد قراءة أوّلية لنص المشروع، الى الثغرات الكامنة في المشروع المسرّب ومحاولة الإضاءة عليها سواء لتفاديها، أو لتجنيب المتعاملين مع المصارف الإشكالات التي يمكن ان تنشأ عن تطبيقها، في علاقتهم مع المصارف التي ستَنْفذ من أي ثغرة فيها  لممارسة  إستنسابيتها في التعامل تجاه عملائها.

هذا في الشكل، أما في الأساس فسنسوق ملاحظاتنا على اساس إفتراض ان مثل هذه التدابير يجب ان تراعي مبادئ الشفافية والوضوح والإنصاف، شرطا لجدواها.

و سنعتمد في هذا التعليق الترتيب نفسه للمواضيع الذي اعتمده المشروع الآنف الذكر:

 

الأموال الجديدة

أولا: في ما سُمِّي ب "الاموال الجديدة":

حدّد المشروع مفهوم الاموال الجديدة بـ "التحاويل الواردة من الخارج والايداعات النقدية بالليرة اللبنانية او بالعملة الاجنبية التي تتلقّاها المصارف .... بعد تاريخ ١٧/١١/٢٠١٩"، وهذا التحديد واضح بعناصره. 

و يضيف المشروع "ان استعمال الاموال الجديدة أو التصرف بها يخضع لمشيئة صاحبها ..."، مضيفا في البند الرابع من المادة الاولى منه ان تبقى هذه الاموال خاضعة لمشيئة صاحبها حتى في حال تحويلها كليا او جزئيا من المصرف المتلقاة فيه أصلا الى مصرف آخر. 

عبارة "ان استعمال الاموال الجديدة او التصرف بها تبقى خاضعة لمشيئة صاحبها" بحاجة الى توضيح

و نرى بادئ ذي بدء أنّ جملة "ان استعمال الاموال الجديدة او التصرف بها تبقى خاضعة لمشيئة صاحبها" بحاجة الى توضيح:

-فهل يعني ذلك ان صاحب تلك الاموال له الحق في السحب نقداً من هذه الاموال بالعملة الاجنبية، دون الخضوع للسقوف التي قد يحددها كل مصرف استنسابياً على هواه، او لعمولات زاجرة على السحب النقدي تردع صاحبها عن ممارسة حقّه بهذا السحب؟ 

-ثم، وفي اضعف الأيمان، هل يحق لصاحب اموال جديدة ناتجة عن ايداعات نقدية بالعملة الاجنبية، ان يسحب هذه الاموال نقدا وفقا لمشيئته في الوقت الذي يختاره (في حالة ابقائه حسابه تحت الطلب بطبيعة الحال) ، دون ان يخضع لتقنين زمني يفرضه المصرف؟

 

أما بالنسبة الى امكانية تحويل هذه الاموال كليّاً او جزئيّاً الى مصرف آخر عامل في لبنان مع احتفاظها بمزاياها، فهو دون شك تدبير حكيم جدا نظريّا لانه يحرّر صاحب الاموال الجديدة من أي تعسّف يمارسه مصرفه عليه متسلّحا بحاجة العميل اليه للاستفادة من تلك المزايا، ولكن كي تصبح هذه الضمانة بالتحويل فعّالة عمليا، يجب ان يُمنع المصرف المحوّل له من فرض أية قيود على هذا التحويل كفرض تجميد استعمال المبلغ المحوّل اليه لمدة معيّنة أو غير ذلك من القيود التي تفرضها المصارف كشرط لقبول التحويل (أو تحصيل الشيك للعميل) حاليا؛ علما اننا نتفهّم في هذه الحالة (اي حالة نقل الاموال الجديدة من مصرف الى آخر) تردّد المصرف المحوّل اليه في قبولها، طالما ان هذه الاموال الجديدة يكون قد استفاد منها المصرف الذي وردت اليه أولا باستلامها لدى مراسله في الخارج او نقداً، بينما المصرف المحوّلة اليه "الاموال الجديدة" لا يستفيد من ذلك إذا حُوّلت اليه داخليا. و لتفادي هذه الاشكالية، نرى ان المشروع يجب أن يتضمن تدبيرا يُلزَم بموجبه المصرف الذي تلقّى الاموال الجديدة أصلاً ومباشرة، ان يحولها بناء لطلب صاحبها الى مصرف آخر بموجب تحويل الى المراسل الخارجي للمصرف المتلقّي، أو أن توضع آلية لدى المصرف المركزي تتيح للمصرف المتلقّي للحوالة بان تُقيّد له قيمتها في مطلق الاحوال لدى مراسله في الخارج.

من المفيد ان تتضمّن التدابير تعديلا يتيح استثناء الشيكات المحررة بالليرة اللبنانية والتي لا تتجاوز قيمتها حدّا معيّنا من القيود

العمليات داخل لبنان

ثانياً: العمليات داخل لبنان بواسطة التحاويل أو الشيكات:

تنص المادة الثالثة من "التدابير" ان العمليات داخل لبنان بواسطة التحاويل والشيكات لا تخضع لأية قيود، كما تنص المادة السادسة منها أنه لا يمكن قبض الشيكات المحررة بالليرة او بالعملات الاجنبية نقدا على شبابيك المصارف بل يتم دفعها في الحساب. 

من البديهيات أن لا تخضع التحاويل والشيكات داخل لبنان لأية قيود، و لكن ما كان يجب ان تلحظه بصراحة ووضوح "التدابير"، هو مآل هذه الشيكات والتحاويل لدى قيدها في حساب المستفيد منها في مصرفه. فقد أرتأت مصارف كثيرة ان هذا المستفيد لا يجوز له استعمال المبالغ الناتجة عن هذه العمليات إلا بعد مرور فترة طويلة (بالأشهر) على قيد العملية في الحساب، سواء بالسحب النقدي حتى المقنّن بأية عملة كانت، او باستعمال المبلغ المحوّل رصيدا لشيكات أو تحاويل اخرى يحتاج المستفيد المذكور لسحبها لصالح اشخاص ثالثين. إن هذه الممارسة غير المبررة، من شأنها ان تعيق تداول وسائل الدفع البديلة عن النقد  بين المواطنين وتؤدي الى اشتراط أي مقدم خدمة أو بضاعة، توفير المقابل نقدا سواء بالعملة اللبنانية او بالعملة الاجنبية، خاصة انه تم منع قبض قيمة الشيكات نقدا ولو كانت بالليرة اللبنانية.

 ومن الضروري بالتالي، تسهيلا لتبادل تقديم الخدمات  والبضائع، أن تشمل "التدابير" تحظيرا على المصارف المتلقّية للشيكات والتحاويل، اشتراط تجميد القيم الناتجة عنها والمقيدة لديها  كشرط ملزم لقبول التحويل او تحصيل الشيك، كما من المفيد ان تتضمّن هذه التدابير، تعديلا لما ورد فيها من منع قبض الشيكات نقدا، استثناء للشيكات المحررة بالليرة اللبنانية والتي لا تتجاوز قيمتها حدّا معيّنا (مليون ليرة لبنانية مثلا) مع تحديد حدٍّ اقصى عند الاقتضاء لقيمة الشيكات بالليرة التي يمكن لصاحب الحساب اصدارها على حسابه شهريا.

مشروع "التدابير" لم يتطرق في أي مادة منه لمسألة السحوبات بالعملة الأجنبية

السحوبات النقدية

ثالثاً: السحوبات النقدية:

تناول مشروع "التدابير" موضوع السحوبات النقدية بالليرة اللبنانية ولكنه لم يتطرّق البتة في أي مادة منه لمسألة السحوبات بالعملة الأجنبية تخصيصاً، لا في معرض تكريسه خضوع "الاموال الجديدة" لإرادة صاحبها، و لا بمناسبة تحديده سقف شهري للسحوبات النقدية بالليرة اللبنانية. و كأنّا به يحاذر تناول هذا الموضوع قصداً، بل عمداً.

فإذا عطفنا هذا الموقف على واقع التعامل المصرفي حالياً بالنسبة لموضوع السحوبات النقدية بالعملة الأجنبية،  فلا يمكننا إلا ان نلحظ رابطا خفيّاً بين الموقف والواقع المذكورين، و يحق لنا ان نستنتج بالتالي بعد ملاحظة التناقص المستمر والمتسارع للعملات الاجنبية النقدية التي توفّرها المصارف لعملائها، أن من أعدّ مشروع "التدابير"، كان بذهنه ان استمرارية توفير عملات اجنبية نقدية للمودعين قد بلغت نهاياتها، و أن لا حاجة بالتالي لتقرير أية تدابير بهذا الشأن. و ما يعزّز قناعتنا هذه ان الموقف المعلن لحاكمية مصرف لبنان، هو ان المصارف اللبنانية غير ملزمة بتوفير عملات نقدية أجنبية لعملائها، بل يقتصر موجبها بهذا الشأن بتوفير العملة اللبنانية فقط. 

هل يحق للمصرف منع العميل عند استحقاق الوديعة، من تحويل الرصيد الى مصرف آخر

تقسيط الدفعات المستحقة

رابعا: تسديد الاقساط او الدفعات المستحقة بالعملة الأجنبية:

 أوجبت التدابير على المصارف "قبول تسديد الاقساط والدفعات المستحقة بالعملة الاجنبية الناتجة عن قروض التجزئة  بالليرة اللبنانية على اساس سعر الصرف الرسمي شرط ان لا يكون للعميل حساب بهذه العملة الاجنبية لدى المصرف المعني يمكن استعماله لتسديد هذه الاقساط او الدفعات".

و رغم ان هذا التدبير جيّد، إلا أنه تكتنفه بعض الالغام:

-فماذا يُعتبر، من جهة اولى، حسابا لدى المصرف "يمكن استعماله لتسديد الاقساط": هل يمكن اعتبار الحساب لأجل،  مثلا،  ممكن الاستعمال لهذه الغاية، أو هل أن استعمال مثل هذا الحساب لهذه الغاية خاضع لموافقة مزدوجة من المصرف والعميل، أم أن موافقة المصرف لإستيفاء كل قسط يستحق من الوديعة المُجمّدة للمدة المتفق عليها، كافٍ بهذا الشأن؟

-ثم انه في حالة كون الحساب تحت الطلب، هل يمكن للمصرف منع العميل من نقله الى مصرف آخر لتفادي إقتطاع الاقساط التي ستستحق مستقبلاً منه؟ و في سيناريو آخر وفي حال اقتطع الصرف الاقساط المستحقة من هذا الحساب بالعملة الاجنبية نفسها للقسط، هل يحق للمصرف منع العميل عند استحقاق وديعة لأجل من تحويل رصيد هذه الوديعة الى مصرف آخر (في حال لم يكن هذا الحساب مخصص اصلا، بطبيعة الحال، كضمانة للدين) بذريعة استيفاء الاقساط التي ستستحق مستقبلا بنفس عملة الاقساط؟

-وأخيرا، ألم يكن من الأفضل تحقيقاً للمساواة بين جميع المدينين، تقرير استفادتهم جميعا من هذا التدبير، بغض النظر عن وجود أو عدم وجود حساب بالعملة الاجنبية نفسها لدى المصرف نفسه الذي يطرح الإشكالات المتقدم ذكرها، و بدلا من التفريق بين قروض التجزئة و القروض الاخرى لتطبيق التدبير، اعتماد التدبير المذكور لجميع صغار المدينين من خلال تطبيقه على مبلغ اقصى لكل دين، مهما كانت طبيعته؟