لـبـنـان عنــد المفتـــرق
معـالجـة ثلاثيـة الأطـراف «المالية»، «المركزي»، المصارف

30.04.2019
الحـريــري: لا مفـرّ مــن الإصــلاح
خليل: إصلاح القطاع العام
رياض سلامة: صناعة التفاؤل
طربيه: المصارف مستعدة ولكن...
Twitter icon
Facebook icon
LinkedIn icon
e-mail icon
شارك هذه الصفحة مع آخرين
Print Friendly, PDF & Email
علي زين الدين

لم يعد من الجائز أبداً الإنكار بأن لبنان إقتصاداً وماليةً ونقداً، يقف عند مفترق مفصلي، فإما يتوصل إلى حلول إنقاذية، وإما يتسارع مصيره نحو الهاوية، والرهان على أن الجميع وعلى رأسهم السياسيون، بات يستشعر بالخطر الداهم ليس كافياً لوحده ما لم يترافق ذلك مع إستعداد حقيقي للمشاركة الفعلية والتفكير بمسؤولية وموضوعية وصولاً إلى حزمة من التدابير والسياسات تضع لبنان على سكة التصحيح الذي طال إنتظاره. وبين الإنقاذ أو الهاوية يعيش لبنان بمختلف فاعلياته مخاضاً عسيراً وصعباً وسط تباين خفيف حيناً وحاد أحياناً حول الرؤية والأولويات وكذلك، وللأسف، وسط تباين في التوصيف للأسباب التي أوصلت البلاد إلى ما هي عليه.

الوضع المأزوم ناتج كما هو معلوم من: ديْن عام يقدره البعض بنحو 100 مليار دولار وعجز مزمن في الموازنة في ظلّ إنفاق مُتزايد وايرادات متناقصة وعجز كبير في الميزان التجاري وتالياً ميزان المدفوعات، الأمر الذي شكّل وبشكل مُتزايد ضغوطات على الوضع النقدي.

ومع تعدّد الإقتراحات والطروحات، ثمة توجّه بات مؤكداً من حيث المبدأ لكنه يحتاج إلى مجموعة من الإجراءات مفادها  أن الأزمة تنتظر معالجة ثلاثية الأطراف ترتكز على الآتي:

أولاً، الموازنة: إجراء تخفيض محسوس في موازنة العام 2019 يجب أن لا يقل عن ملياري دولار، وما طرحه وزير المالية علي حسن خليل وضمنه مشروع الموازنة يصحّ أن يكون إطاراً ممكناً لضبط الإنفاق وإن لزم الأمر تعديل من هنا أو إضافة من هناك.

ثانياً، «المركزي» :في مقابل موازنة تظهر خفضاً واضحاً وإلغاء لمزاريب الهدر والإنفاق غير المُجدي، يبادر مصرف لبنان إلى المساهمة في مُلاقاة إستحقاقات سندات الديْن الدولية من خلال عملية مُبادلة مالية «سواب» على غرار ما تمّ في أوقات سابقة وقد تصل قيمة هذه المُبادرة إلى نحو 5 مليارات دولار.

ثالثاً، المصارف: تنفّذ المصارف كما كانت وعدت به سابقاً من خلال المساهمة في الإكتتابات بسندات بنحو 5 مليارات دولار بفائدة صفر ولمدّة معيّنة يتمّ الإتفاق عليها، وهذا الأمر مشروط بصدور موازنة تقشفية تُعيد إلى الدولة بعضاً من الملاءة المطلوبة لكونها عميلاً أساسياً لدى المصارف.

رابعاً، الفرصة: لا بدّ أن تدرك الأطراف الثلاثة ومعها أو قبلها القوى السياسية على المستويات كافة أن أمام لبنان فرصة ذهبية قد تكون غير قابلة للتكرار في الشروع في عملية الإصلاح ليس كرمى لمؤتمر «سيدر» على أهميته، بل من أجل البدء بإزالة التشوهات البنيوية اللاحقة بالاقتصاد.

خامساً، المسؤولية: واستطراداً وأمام هذه الفرصة لا قوت للمناكفات ولا للحسابات من أي نوع كانت، بل للمواقف «الشعبوية» التي بدأت تطل برأسها من هنا ومن هناك ومن جهات ينبغي أن تبقى بمنأى عن الخطاب «الشعبوي».

في انتظار ذلك، أي إنجاز الموازنة وإقرارها في مجلس الوزراء مروراً باللجان النيابية ووصولاً إلى الهيئة العامة لمجلس الجنوب، يستمر المخاض العسير وهنا بعض من مشاهده.

يكاد الضجيج الذي يحوط مسار إعداد مشروع موازنة العام الحالي معززاً بالكلفة الثمينة للتباطؤ الحكومي المشهود، أن يحجبا المفاعيل المتوخاة للإصلاح المالي في درء دومينو الانهيار الجدي، وفي توصيل الرسالة «الذهبية» الى المجتمع الدولي ومؤسساته الفاعلة. إلتزام إصلاحي نحتاجه ونلتزمه مع التقدير للنصح و/ أو للدفع مقابل إلتزام دعم وتمويل لبلد يحمل عنكم أعباء نزوح لا ترغبونه ويمنحكم منصة للحضور والانخراط في مشاريع إعمار إقليمية بمئات مليارات الدولارات. 

 

صافرة الإصلاح 

 الحقيقة الساطعة أن لبنان دخل مرحلة حاسمة ومهلة قصيرة لإقرار موازنة تطلق صافرة الإصلاح الجدي وفق خريطة طريق 

تتضمن إجراءات تكاملية في الموازنات اللاحقة، توخياً لتحقيق هدف خفض العجز من مستوى 11.3 في المئة من الناتج الى 5 في المئة خلال 5 سنوات، وذلك تزامناً مع نهاية الصرف « المشرع والمتاح»  وفق القاعدة الإثني عشرية في نهاية شهر أيار الحالي، وإلا فإن الانهيار البديل ستظهر أولى ملامحه بتوليد ضغوط أشد في موجات تصاعدية على المالية العامة وعلى سعر النقد، وأيضاً على الجهاز المصرفي المنغمس في تمويل الدولة والاقتصاد بما يصل إلى 93 مليار دولار بينها نحو 58 ملياراً للقطاع الخاص والباقي للقطاع العام.

وإذا كان القلق المشروع على كل المستويات يبيح إرتقاء موضوع الموازنة الى صدارة الاهتمام لدى كل الأوساط والفئات المجتمعية، فإن «عكاظيات» الترقّب والتحليلات وموجات دفق المعلومات والشائعات تنذر بتمدد الجدل «الشعبوي» إلى مؤسستي مجلسي الوزراء والنواب. هنا الممر الدستوري الموضوعي والإلزامي لمشروع القانون، وهنا يفترض «تقليب» جمرة الإجراءات القاسية الملحة بين يد ويد حتى تخف حماوتها وتستعيد الدولة حضورها وهيبتها ومرجعيتها الجامعة والراعية للمواطنين جميعهم ولمصالحهم ولمؤسساتهم في كل الحقول والميادين، ومن دون «تثقيل» مكلف للتنفيعات والمصالح الخاصة وللغايات الانتخابية.

يؤكد وزير المال علي حسن خليل: «أنا اوضح بشكل قاطع ان هذه العملية ليست ترفاً، هذه مسألة مرتبطة ببقائنا ووجودنا. بالنسبة إلينا، ليس لدينا أي تحفظ على أي إجراء يساهم في تخفيف الهدر والفساد وإعادة النظر في كل الأمور القائمة. لا غطاء سياسياً على أحد ولن يكون هناك غطاء على أحد في أي عملية فساد، لكن أودّ ان أشير الى ان طبيعة نظامنا عفن: لا يمكن ان نتحدث عن إصلاح حقيقي ونحن نقدم المصالح الطائفية والفئوية على منطق المواطنية وبالتالي حين نصل إلى هذا لأمر نكون قد حققنا الإصلاح».

الثلاثي المالي

المشهد العام زاخر فعلاً بأخبار وتأويلات حول توجهات إعداد مشروع الموازنة وكيفية توفير نحو 1.5 مليار دولار للفترة المتبقية من العام الحالي عبر خفض الإنفاق وتحسين واردات الخزينة، لكن ما هو مؤكد منطقياً وعملياً  أن المعالجات الأساسية ستتوزع على الثلاثي المالي المكون من وزارة المال ومصرف لبنان المركزي والجهاز المصرفي. ومن ملامحه:  

• من المفترض أن يضمن هذا التوزيع الثلاثي إحداث صدمة ايجابية سريعة تحدّ من سرعة الانهيار الحاصل في المالية العامة والأداء الاقتصادي ويستجيب للمواصفات التي حددتها الدول والمؤسسات الداعمة في «سيدر»، والذي انعقد في نيسان من العام الماضي، وتكفل بضخ نحو 11.6 مليار دولار، أغلبها على شكل قروض ميسرة للقطاعين العام والخاص وجزء منها على سبيل المنح.

• وفقاً لتوصيف وزير المالية، «الموازنة ليست مجرد أرقام، إنما يجب أن تُعبّر عن سياسة الدولة ولكن للأسف معظم موازناتنا لم تكن تعكس ماذا تريد الدولة وهويتنا ضائعة، ونحاول قدر الإمكان في هذه الموازنة إعادة التصويب، وأنا حريص على أن لا يُمس الاستقرار الاجتماعي من خلال إجراءات هذه الموازنة.إن معظم الموازنات لم تكن تعكس الأرقام الحقيقية، ومراجعة قطوعات الحساب تظهر أننا بحاجة الى تصحيح الحسابات من العام 1997 الى العام 2003»، وهذه الموازنة ستكون شفافة ولم يعد الموضوع ترفاً، فإما نريد دولة أو لا نريد».

• ثمة إشارات بأن المصارف ستسير في هذا الخيار بشرط إقرار الموازنة التقشفية والشروع الفعلي بتنفيذ خطة إصلاحات شاملة إدارية ومالية من شأنها فتح الأفق المسدود أمام إعادة تنشيط الاقتصاد وجذب الاستثمارات الخارجية والتطلع إلى تحقيق نسب نمو تتراوح ما بين 3 و5 في المئة بالتزامن مع كبح نمو الدين العام، علماً أن الشروع في حفر الآبار النفطية في المياه الاقليمية أواخر العام الحالي وتوقع الآثار الايجابية لرفع الحظر على السياحة الخليجية الى لبنان، يشكلان دعماً قوياً للاقتصاد في المرحلة المقبلة. 

المصارف: إستعداد وتخوف 

وفي إشارة مرمّزة، أكّد رئيس جمعية المصارف د. جوزف طربيه 

«ان القطاع المصرفي ليس محايداً في صناعة الإنقاذ وفي إعادة تصويب مسار الاقتصاد على سكة النهوض والنمو، وما من شك أن القطاع المصرفي اللبناني سيظلّ ملتزماً مساندة الدولة بمؤسّساتها وسلطاتها الدستورية، فهذا خيار استراتيجي لم نفرّط بأي من ركائزه حتى في أصعب الظروف التي مر بها  لبنان». ويضيف: «لذلك، فإن ما نسمعه من بعض الاصوات التي تستهدف المصارف وتوظيفاتها 

في الدين العام كسبب لتفاقم عجز الموازنة، بدلاً من معالجة الاسباب الحقيقية لهذا العجز، ينتج عنه في المحصلة إبقاء الوضع 

من دون معالجة اسبابه وتسميم المشهد المالي بما يؤدي الى خفض التصنيف الائتماني وإقفال الاسواق المالية العالمية والمحلية امام الدولة في وضع تستمر فيه حاجتها للإستدانة مجدداً».

ويتخوف المصرفيون، ومن دون مواربة، من اضطرار وكالتي « ستاندرد آند بورز «و» «فيتش» الى اللحاق بوكالة «موديز» في خفض تصنيف الديون الحكومية الى الدرجة «سي» ذات المخاطر الأعلى، مما سيضطر البنك المركزي الى الايعاز للمصارف بحجز مخصصات إضافية على إجمالي السندات السيادية بداية، وقد يتمدد الإجراء ذاته لاحقاً الى التوظيفات المتنوعة لدى البنك المركزي ذاته، وهذا ما يشكل ضغوطاً واسعة على أداء  المصارف وتصنيفاتها وربحيتها مع العلم أنّ التسليفات الممنوحة من قِبَل المصارف إلى القطاع العامّ تشكّل نحو 40 في المئة من الدين العامّ، وأنّ حصّة البنك المركزي من سندات الخزينة اللبنانيّة تناهز 50 في المئة.

• وفق السيناريو المرتقب، ستحيل وزارة المال وشيكاً مسودة مشروع قانون الموازنة على الحكومة ويتم تخصيص جلسات متتابعة لإقراره وإحالته على مجلس النواب، ليصار الى عقد جلسات مناقشة وإقرار للقانون ضمن مهلة زمنية يؤمل أن تسبق نهاية شهر أيار الحالي، وبذلك يمكن للحكومة بدء الصرف وفق الموازنة اعتباراً من شهر حزيران.

 ويوضح وزير المال: «تقدمت بموازنة 2019 في موعدها المفترض في 28 آب 2018، والمشاورات ترتكز على المناخ المستجد وعلى إصلاحات ضرورية، وهناك إجراءات تتعلق بالنمط السائد حيث يجب تصحيح بعض القواعد الخاطئة المعتمدة، والموازنة أنجزت بشكل كامل بكل تعديلاتها وأرقامها وسيناريوهات مختلفة لما يمكن أن يُطرح لاحقاً. تمنّيت على رئيس الحكومة سعد الحريري عقد جلسة لمجلس الوزراء... لتقديم الموازنة مع تعديلاتها بشكل رسمي، ومن ثم مناقشتها بأسرع وقت ممكن لإحالتها على مجلس النواب». 

• يفترض «المتفائلون» أن يتضمن البرنامج الذي فرض تعديل مشروع الموازنة وتم التشاور في بنوده بين رئيس الحكومة سعد الحريري ووزير المال علي حسن خليل، إقدام الحكومة على سلسلة مبادرات جريئة والتصدي بحزم لمخالفات منع التوظيف في القطاع  العام التي تضمنها قانون السلسلة وتوحيد معايير المساعدات الاجتماعية والصحية وسائر المخصصات الملحقة بالرواتب وإعادة تنظيم الأنظمة التقاعدية على قاعدة التساوي في الحقوق والحسومات، فهذه الإجراءات تضمن الى جانب تخفيف أعباء الرواتب خفضاً وازناً من الإنفاق، بعد ان تأكد خطأ تقدير كافة الزيادات للقطاع العام (السلسلة) بنحو مليار دولار لتبلغ نحو المليارين بعد إضافة أعباء التقاعد.

البرنامج التقشفي

• مع ترقب البرنامج المالي التقشفي الذي ستقترحه وزارة المال، ترجح المعلومات أن يشكل التوجّه لخفض رواتب ومخصصات الرؤساء والوزراء والنواب وإلغاء الجزء الأكبر من «المعونات» لمؤسسات ومدارس خاصة ومهرجانات ونقابات، مظلة حماية وحفز لتمدد اتخاذ تدابير أقل قسوة تطال كتلة الرتب والأجور في القطاع العام، والتي ناهزت 40 في المئة من اجمالي الانفاق العام بعد إقرار «السلسلة» أواخر العام 2017، بينما شكل إقتراح مشروع قانون لإلغاء كامل الإعفاءات الجمركية والشروع بالتشدد في مكافحة الهدر والفساد في أغلب البوابات البرية والجوية إشارة واعدة لإمكانية حصول تحسن كبير في واردات الخزينة، وخصوصاً بعد الكشف عن عمليات تحايل واسعة النطاق في تخمين فواتير المستوردات، وبما يصل أحياناً الى أكثر من 50 في المئة من قيمتها الحقيقية.

• يعكف مصرف لبنان على الخط الثاني للمعالجات تحت عنوان مواكبة الاحتياجات المالية للدولة ويرتقب، في هذا السياق، أن يتولى ملاقاة استحقاقات سندات دين دولية للعام الحالي بقيمة تصل الى 2.65 ملياري دولار، إضافة الى تسديد فوائد لسندات دين دولية قائمة بنحو ملياري دولار (الاجمالي نحو 4.7 مليارات دولار)، يضاف اليها مستحقات وفوائد سندات الدين بالليرة وذلك من خلال عملية مبادلة مالية لإصدار خاص (سواب) تجريها معه وزارة المال مقابل الاكتتاب بسندات خزينة بالليرة وبفوائد مخفضة 

تكفل مدّ الخزينة بسيولة تحتاجها، بينما يعمل البنك المركزي لاحقاً على إعادة تسويق السندات الدولية محلياً وخارجياً. ويعزز هذه المعلومات عدم إقدام وزارة المال على تكليف مصارف محلية أو خارجية بإصدار جديد أو أكثر لتغطية استحقاق سندات «يوروبوندز» تستحق في شهري نيسان وأيار، بقيمة إجمالية تبلغ 1150 مليون دولار ثم يتبعها استحقاق أخير لهذا العام بقيمة 1500 مليون دولار في نهاية شهر تشرين الثاني المقبل.

• كما يرتقب أن يكون للبنك المركزي دور في تعزيز قناعة المصارف بالاكتتاب في سندات خزينة بالليرة وبالدولار بفوائد صفرية أو مخفضة للغاية بهدف تخفيف ضغط الدين العام على الموازنة التقشفية، ويرجح أن لا تقل الاكتتابات عن 5 مليارات دولار في المرحلة الأولى. وسبق للمصارف أن وظفت نحو 10 في المئة من إجمالي الودائع لديها بسندات حكومية ناهزت 3.6 مليارات دولار من دون فائدة لمدة ثلاث سنوات ضمن ملاقاتها لتثمير نتائج مؤتمر باريس2 في العام 2002 .