التحول السعودي أعمق من أرقام الميزانية

05.12.2025
وزير المالية السعودي محمد الجدعان
Twitter icon
Facebook icon
LinkedIn icon
e-mail icon
شارك هذه الصفحة مع آخرين
Print Friendly, PDF & Email

فيصل أبوزكي

خلف النقاش التقليدي حول الإيرادات والنفقات والعجز والدين وأسعار النفط، يجري في العمق تحول هيكلي يُحدد هوية الاقتصاد السعودي الجديد ودوره في العالم. هذا التحول لا ينحصر في ميزانية سنة واحدة، ولا تختزله فجوة تمويلية مرتبطة بدورات النفط، بل تقيسه القدرة على تنويع مصادر النمو، وتوسيع قاعدة الإنتاج، وبناء مؤسسات وسياسات قادرة على إدارة الصعود الاقتصادي في بيئة عالمية مضطربة.

الميزانية كأداة للتحول  

ملتقى ميزانية 2026 الذي انعقد في الرياض، حين يُقرأ كوثيقة سياسية واقتصادية، يُقدم ملامح هذا التحول بوضوح. الميزانية السعودية التي اصبحت توفر قدرا عاليا من الشفافية عبر البيان التمهيدي والتقارير الفصلية والبيان السنوي الشامل لم يَعُد ينظر اليها كجداول أرقام بقدر ما هي أداة من أدوات تنفيذ رؤية بعيدة المدى. وزير المالية السعودي محمد الجدعان لم يتحدث عن ترشيد الانفاق بالمعنى الضيق، بل عن كفاءة إنفاق تعيد توجيه الموارد نحو القطاعات الأعلى أثراً. ووزير الاقتصاد والتخطيط فيصل الإبراهيم قدم ادلة على أن بنية الاقتصاد غير النفطي باتت أوسع وأكثر تنوعاً مما كانت عليه قبل أقل من عقد. في الخلفية، تظهر صورة قيادة ودولة قررت أن تفصل بين مسار الرؤية الطويل وبين التقلبات المالية السنوية، وأن تتعامل مع الضغوط المالية كاختبار للسياسات، لا كتهديد للمشروع.

مراجعة المشاريع جزء من قوة الرؤية

إن تحويل الميزانية إلى أداة لإدارة التحول هو في ذاته علامة نضج مؤسساتي. فالدول التي تعيش تحولات كبرى غالباً ما تقع في فخ إنفاق مفرط وغير منضبط ما دامت الإيرادات والموارد متاحة، ثم تتراجع اضطراراً مع أول هزة في الأسواق. ما تحاول السعودية فعله اليوم مختلف نوعاً ما وهو الاعتراف بواقع تراجع أسعار النفط واتساع العجز، وفي الوقت نفسه تثبيت الاتجاه الاستراتيجي نحو تنويع الاقتصاد وعدم التراجع عن المستهدفات الهيكلية للرؤية. هنا بالضبط تتجلى أهمية ما أعلنه وزير المالية عن مراجعة بعض المشاريع الكبرى وربما إلغاء بعضها؛ فالفكرة ليست حجم المشاريع او عددها بل نوعيتها وجدواها وقدرتها على توليد قيمة مضافة وأثر مستدام ودورها في تحقيق الهدف الاكبر وهو تنويع قاعدة الاقتصاد ومصادر نموه وقدرته على توليد الوظائف.

نمو غير نفطي يعكس تغيّر البنية الاقتصادية

بهذا المعنى، تصبح خطوة مراجعة المشاريع اختباراً لمتانة الرؤية لا لتراجعها. فالتحول الحقيقي اصبح يُقاس بقدرة الدولة على إعادة ترتيب أولوياتها عندما تتغير الظروف. حين يُعاد النظر في مشروع ضخم أو يؤجل أو يُلغى، فهذا يشير، إذا تم في إطار واضح، إلى أن القيادة والإدارة المالية تحاول حماية جوهر الرؤية من الإفراط في الالتزامات طويلة الأجل في لحظة تتغير فيها معطيات السوق وأسعار النفط. المهم أن يبقى الاتجاه العام ثابتاً وهو اقتصاد أقل ارتهاناً لعائدات النفط، وأكثر ارتكازا على الإنتاجية، والمعرفة، والقطاعات الجديدة.

تغير في هيكلية الاقتصاد

ما يُعزز هذا الطرح أن الأرقام التي عرضها الوزراء والمسؤولين في ملتقى الميزانية الاخير تشير إلى تَغُير في هيكل الاقتصاد نفسه. ارتفاع مساهمة الأنشطة غير النفطية إلى أكثر من نصف الناتج المحلي (بحدود 56 في المئة) هو علامة مهمة على بروز قاعدة إنتاجية بدأت تشمل الصناعة، والخدمات، والسياحة، والرياضة، والخدمات اللوجستية، والتقنية. فنمو عشرات القطاعات غير النفطية بمعدلات تفوق 5 في المئة، بعضها يتجاوز    10 في المئة سنوياً، يُبشر بأن دينامية جديدة دخلت إلى جسد الاقتصاد، وأن القطاع الخاص بدأ يلتقط الفرص في مجالات كانت هامشية أو غير موجودة قبل رؤية 2030.

استثمار اجتماعي يتحوّل إلى رافعة اقتصادية

في قلب هذا التحول يقف الإنسان بوصفه مورد الدولة الأهم.  الأرقام المتعلقة بسوق العمل، ومشاركة المرأة، وانخفاض البطالة، وتَوسُع التغطية الصحية، وتحول التعليم إلى قطاع منتج للمهارة والابتكار كلها تكشف أن السعودية تنجح بتأسيس علاقة جديدة مع رأس المال البشري. وهذا هو رهان كبير على أن أي اقتصاد يريد أن يتجاوز الاعتماد على مورد طبيعي واحد، لا بد أن يراكم ثروة بشرية قادرة على الإنتاج في قطاعات تعتمد على المعرفة والتقنية والخدمات العالية القيمة. وهنا يصبح بند التعليم أو الصحة في الميزانية استثماراً في قدرة الدولة على توليد دخل مستقبلي وقوة تنافسية جديدة.

اقتصاد جديد يتشكّل عبر قطاعات واعدة

القطاعات الواعدة التي تمت مناقشتها في الملتقى، من السياحة إلى الرياضة إلى الصناعات العسكرية والمدنية والموانئ والخدمات اللوجستية، تشكّل ملامح اقتصاد جديد  يتكون على مهل ويبنى لبنة بعد الاخرى. الأرقام المتداولة عن الإنفاق السياحي، وعدد الزوار، وحجم سوق الرياضة، والاستثمارات في الموانئ، ومستوى توطين الاحتياجات العسكرية والطبية، كلها مؤشرات على أن مصادر الدخل تنوعت فعلاً. والمهم هنا هو اتجاه الحركة. انه اقتصاد كان يُعرِف نفسه لعقود عبر النفط والإنفاق العام، أصبح اليوم يُخصص جزءاً متزايداً من جهده وموارده لبناء قطاعات قادرة على النمو الذاتي والسريع، وجذب الاستثمار، وخلق الوظائف، وربط المملكة بسلاسل القيمة العالمية.

ضغوط النفط اختبار للقدرة لا تهديد للمسار

في المقابل، لا يمكن تجاهل أن هذا التحول يجري في ظل ضغوط مالية حقيقية ناجمة عن تراجع أسعار النفط وارتفاع العجزوالدين، وأن إدارة هذه الضغوط ستكون أحد مفاتيح نجاح أو تعثر المسار. لكن قراءة هذا الواقع بمعزل عن عناصر القوة البنيوية للسعودية تقود إلى استنتاجات مترعة وسطحية. فالبلاد لا تنطلق من نقطة هشاشة او ضعف. فهي تمتلك احتياطيات مالية كبيرة اكان في البنك المركزي او من خلال صندوقها السيادي، وقدرة على الوصول إلى الأسواق، ومستوى مديونية يمكن التحكم به، إضافة إلى منظومة مؤسسات مالية وتنظيمية صلبة تراكمت خبرتها خلال عقود. ما يُضاف اليوم هو توسيع مخزون الأصول القابلة للتفعيل لتشمل الثروات المعدنية التي يجري التمهيد لاستغلالها، الأصول اللوجستية والمكانية والعقارية التي يعاد تحويلها إلى منصات استثمارية، والثروة السياحية والثقافية التي بدأت تتحول إلى مورد اقتصادي ملموس.

رصيد جيوسياسي يدعم التحول الداخلي

إلى جانب ذلك، يُشكل الموقع الجغرافي والرأسمال الجيوسياسي رافعتين مهمتين في معادلة التحول. فالسعودية التي تسعى لتكون منصة لوجستية تربط ثلاث قارات، وتلعب دوراً محورياً في أسواق الطاقة والتحولات الاقتصادية العالمية والاقليمية، لا تُنجز فقط تحولاً داخلياً، بل تغييرا محوريا في موقعها ضمن النظام الاقتصادي الدولي. هذا البعد الخارجي له اهمية خاصة، لأنه يفتح أمام الاقتصاد السعودي فرص شراكات واستثمارات ونقل تقنية وتموضع في سلاسل الإمداد لا تتوفر لمعظم الاقتصادات الناشئة.

ميزانية عام… وتحول عقد

بهذا كله، تصبح ميزانية 2026، بكل ما فيها من أرقام عجز وضغوط  سعرية، جزءاً من قصة أكبر وليست القصة نفسها. القراءة التي تقتصر على سؤال: كم سيكون العجز والدين؟ تفقد المعنى إذا لم تُستكمل بسؤال أعمق وهو إلى أين يتجه الهيكل الاقتصادي للدولة وموقع السعودية في العالم؟ وكيف تُستخدم هذه الميزانية، بما فيها من قيود وضوابط، لتثبيت وترسيخ مسار التحول؟. ما يظهر من تصريحات المسؤولين، ومن طريقة إدارة النقاش، هو أن السعودية تحاول أن تبني نهجاً جديداً في السياسات والادارة المالية يرتكز على شفافية أكبر في عرض التحديات، وربط أوضح بين الإنفاق وأثره التنموي، وادارة دقيقة للمالية العامة، واستعداد سياسي لمراجعة الخيارات والاستثمارات إذا دعت الحاجة، من دون التخلي عن الاتجاه الاستراتيجي.

تحوّل تاريخي لا تحكمه دورة نفط

في النهاية، التحولات التاريخية تقاس بمسار ممتد تتراكم فيه السياسات والقرارات والإنجازات والتصحيحات أيضاً. السعودية اليوم ليست ببساطة أمام ميزانية صعبة بل أمام مرحلة من إدارة تحول كبير في لحظة عالمية صعبة. إذا نجحت في تحويل هذه اللحظة من اختبار إلى فرصة لترسيخ الانضباط المالي مع الحفاظ على زخم التنويع والاستثمار في الإنسان والقطاعات الجديدة، فإن العجز الحالي سيبدو لاحقاً تفصيلاً في سياق أكبر وهو سياق انتقال اقتصاد بأكمله من عصر إلى آخر. وهذه هي الزاوية التي يبدو من المنطقي أن يُقرأ من خلالها ما جرى في ملتقى ميزانية 2026.