لماذا لا يحتكم صراع شبكات الجيل الخامس إلى المعايير الدولية؟

20.09.2021
Twitter icon
Facebook icon
LinkedIn icon
e-mail icon
شارك هذه الصفحة مع آخرين
Print Friendly, PDF & Email
إياد ديراني
منذ أن استعرت حرب الجيل الخامس من شبكات الاتصالات النقالة بين الولايات المتحدة والصين، والأنظار متجهة إلى مسار هذه المعركة الطاحنة التي اتخذت منحى بعيد جدا عن أدبيات المنافسة الاقتصادية التي تجري عادة بين الدول. الحروب الاقتصادية ليست أمرا جديدا في قاموس الصراعات بين الأمم، لكن أدوات هذه الحرب غير مألوفة وتضرب بعرض الحائط كل القوانين والاتفاقيات وأوّلها المقاييس والمواصفات والشراكات التي نشأت لبناء شبكات اتصالات آمنة مستقرة ومُستدامة، قابلة للتطور في ظل بيئة تعاون صحية، تتمتع بمعايير مشتركة عابرة للشركات وهيئات تنظيم الاتصالات والدول. ومجرد وصف الولايات المتحدة لشبكات الجيل الخامس من هواوي بأنها تفتقد للأمن ومعرّضة للاختراق والتسبّب بمشاكل أمنية للدول التي تسمح بوجودها على أراضيها، نكون أمام ضرب لمداميك عدد كبير من الاتفاقيات والشراكات والمرجعيات العالمية المعنية بأمن وسلامة هذه الشبكات. أهم هذه المرجعيات هي رابطة "جي اس ام أيه" GSMA التي تشرف بالتعاون مع "مشروع شراكة الجيل الثالث" 3GPP على "نظام ضمان أمن معدات الشبكة" أو ما يعرف اختصارا بـ NESAS وهو مخصص لضمان تمتع المعدات والتجهيزات الخاصة بالشبكات بأعلى مقاييس ومعايير الأمن الرقمي.  
  
وخلال كل فصول المواجهة التي وضعت دولة عُظمى كالولايات المتحدة بمواجهة شركة فتية مثل هواوي، يطرح المراقبون سؤالا مركزيا هو التالي: لماذا لا يحتكم صراع النفوذ على تكنولوجيا شبكات الجيل الخامس وأمنها للمعايير والاتفاقيات الدولية؟ لا شك أن هذا السؤال طبيعي ومشروع وبسيط، إلا أن الإجابة عليه تتطلّب وضع الأمور في سياقها، ولو بشكل موجز، قبل تسليط الضوء على الحلول الطبيعية المتوفرة لتنظيم الصراع واخضاعه للاتفاقيات وتحديد مساراته القانونية في الحد الأدنى. 
 

حرب شعواء

لقد مهدت الثورات الصناعية الثلاثة بين نهاية القرن الثامن عشر ومنتصف القرن العشرين، لبناء النظام الاقتصادي العالمي الذي نعرفه. لكن هذا النظام على وشك التغيّر، إذ أننا نعيش مخاض ولادة ثورة صناعية جديدة بدأت بشائرها مع ولادة الانترنت، وتسارعت بشكل هائل مع بدء نشر الجيل الخامس من شبكات الاتصالات النقالة. وربما نكون اليوم على اعتاب بزوغ اقتصاد عالمي جديد، لن تتوضح معالمه وفرصه وتحدياته قبل تبيّن مسار الصراع الاقتصادي العالمي الذي شكّل الجيل الخامس من شبكات الاتصالات إحدى ميادينه الأكثر سخونة. وهذا ليس أمرا مستغربا، إذ أن الجيل الخامس يترافق مع نشوء تقنيات وحدوث اكتشافات تبدأ عند ظهور ثروة البيانات أو الداتا الرقمية الهائلة الناتجة عن استخدام عشرات مليارات الأجهزة الرقمية، وتمرّ عند تحليل البيانات للسيطرة على الأسواق العالمية ولا تنتهي عند الذكاء الاصطناعي والروبوتات التي ستُمكّن من يملك مفاتيحها من تحقيق هيمنة اقتصادية عالمية ربما ليس لها مثيل في التاريخ. لكن صراع النفوذ على سوق الجيل الخامس يشهد حربا شعواء باتت تهدد أمن قطاع الاتصالات والقطاعات الاقتصادية المرتبطة به، خصوصا وأن أطرافا في هذه الحرب الباردة تستخدم الشائعات والتهديد والبروباغندا لتحقيق السيطرة.
 

ضمان أمن الشبكات 

بالعودة إلى المعايير الدولية من الواضح أن ثمة معايير مُتفق عليها بين اللاعبين الرئيسيين في قطاع الاتصالات تشمل الشق المتعلق بأمن الشبكات، وتحديدا من خلال "نظام ضمان أمن معدات الشبكة" NESAS الذي عرّفته رابطة "جي اس أم أيه" GSMA بالتعاون مع "مشروع شراكة الجيل الثالث" 3GPP وهو يضم 7 منظمات معنية بتطوير مقاييس الاتصالات. وهذه المنظمات هي: ARIB، ATIS، CCSA، ETSI، TSDSI، TTA وTTC، وتتخصص في مساعدة أعضائها من خلال توفير بيئة عمل تتيح إصدار التقارير والمواصفات الضرورية في عالم تكنولوجيا الاتصالات اللاسلكية، بما في ذلك الاتصالات الراديوية وأنظمة الشبكات والخدمات ما يتيح تكوين مواصفات شاملة للأمن في عالم الاتصالات النقالة. وتقوم شركات التدقيق بإجراء دراسات للشبكات في كامل سلسلة عملية الإنتاج للتأكد من أمنها وتحقيقها للمتطلبات والمعايير الضرورية. 
 
وعمليا تلتزم شركات الاتصالات الكبرى الصانعة لشبكات الجيل الخامس مثل "أل جي" واريكسون وسامسونغ وZTE ونوكيا وكوالكوم وغيرها بالمعايير المطلوبة. هواوي مثلا تلتزم بمقاييس ومعايير NESAS لتحقيق أعلى مستويات الأمن الرقمي في شبكاتها، إلا أن ذلك لم يمنع الإدارة الأميركية من توجيه الاتهامات من دون دلائل. وهذا ليس أمرا عابرا في حالة هواوي، فالشركة لديها 1500 شبكة اتصالات في نحو 170 بلدا حول العالم، ويستفيد من شبكاتها ما يقارب 3 مليارات شخص. والأهم هو أن هواوي ساهمت بابتكار نحو 253 مقياس في مجال أمن شبكات الجيل الخامس وحصلت على موافقة "مشروع شراكة الجيل الثالث" 3GPP، ما جعل الشركة الصينية أكبر مساهم في هذا المجال على مدى السنوات الماضية. 
 

نحو الجيل السادس

لهذا، من الواضح أن الصراع على الجيل الخامس، هو مسألة سياسية بحتة لا تقنية ولا تكنولوجية. ومن المتوقع أن تزداد شراسة هذه المواجهة خصوصا وأن الشركة الصينية تحقق تقدما واضحا في أبحاث الجيل السادس. ويقول المؤسس والرئيس التنفيذي لهواوي رين زينغفي في لقاء جمعه بعدد من العلماء والباحثين أوائل شهر أغسطس الماضي إن هواوي ستواصل تطوير الجيل الخامس والأعمال في مجال الذكاء الاصطناعي وشبكات الجيل القادم. ويضيف إن أبحاث شركته في مجال الجيل السادس تستهدف السيطرة على ميدان براءات الاختراع المتصلة به وأن هواوي لا تستطيع الانتظار، وعليها المضي قُدما في الأبحاث وتسجيل براءات الاختراع في هذا المجال.         
 
وكمحصلة، نحن أمام صراع تكنولوجي دولي وسباق عالمي نحو احتلال مقاعد الريادة في الثورة الصناعية الرابعة. لكن المطلوب هو الاحتكام للمعايير والاتفاقيات والمرجعيات الدولية، لأنه من دون مظلة قانونية، قد ينتقل الصراع من التكنولوجيا والاقتصاد إلى مجالات أخرى أكثر خطورة. وهذا ليس أمرا بسيطا في قطاع الجيل الخامس الذي تتوقع PwC أن تصل قيمة حجم اقتصاده الكلي إلى نحو 13.2 ترليون دولار بحلول سنة 2035. 
 
ليس خافيا على أحد أن كل ثورة من الثورات الصناعية الثلاثة الماضية عبر التاريخ فتحت الباب واسعا أمام مجموعة من الاكتشافات الكبرى التي غيّرت وجه العالم، فاكتشاف الطاقة النووية في النصف الثاني من القرن العشرين، تواكب مع فتح الأبواب واسعة أمام سلسلة من الاختراقات التقنية الكبرى بدأت بالاتصالات والكومبيوترات ولم تنتهي عند استكشاف الفضاء وتكنولوجيا علم الأحياء. ومن يمتلك اليوم مفاتيح الثورة الصناعية الرابعة وضمنها طبعا أسرار وتقنيات أجيال شبكات الاتصالات، قد يقود العالم لعشرات السنوات وربما أكثر.