المساعي التركية للتقارب مع مصر:
"تكتيك" أم تغيير؟

05.05.2021
Twitter icon
Facebook icon
LinkedIn icon
e-mail icon
شارك هذه الصفحة مع آخرين
Print Friendly, PDF & Email

بيروت ـ الاقتصاد والأعمال

مع انطلاق المباحثات بين مصر وتركيا التي وصفتها وزارة الخارجية المصرية بالاستكشافية، يطرح سؤالين كبيرين:

1. هل تشكل مساعي تركيا للتقارب مع مصر تحولاً في سياستها الخارجية الصدامية، أم هي مجرد تغيير تكتيكي بانتظار تبلور الاتجاهات الجيوسياسية ومسار التسويات في المنطقة.

2. كيف سيتطور الموقف المصري بين مواصلة الارتياب والتريث في التعامل مع المساعي التركية، وبين التجاوب الحذر والتعاون في بعض الملفات مع استمرار الخلاف والتنافس في ملفات أخرى.

مع الأخذ بالاعتبار المؤشرات الإيجابية المتمثلة بتصريحات كبار المسؤولين الأتراك وبدء مباحثات مباشرة في القاهرة، وكذلك بعد الإجراءات التركية المتلاحقة لتقييد أنشطة جماعة الإخوان المسلمين والتضييق على كبار المسؤولين فيها الخ.. فقد يكون المطلوب دراسة حقيقة المعطيات الدوافع التركية للتقارب، والتي يمكن إيجازها في ما يلي:

أولاً: تركيا تعيد حساباتها

اعتمدت تركيا منذ سنوات وتحديداً منذ الانقلاب الفاشل في 2016، سياسة خارجية استباقية pro-action seeking، أطلق عليها "مبدأ أردوغان". تقوم على مقاربة صدامية تستهدف تكريس النفوذ في المحيط الإقليمي. ونجحت هذه السياسة في تحقيق مكاسب كبيرة لتركيا من سوريا والعراق إلى ليبيا وصولا إلى نارغونو كارباخ، والأهم من ذلك كله في ملف شرق المتوسط حيث نجحت في وضع "حقوق تركيا" وقبرص التركية" في ثروات الغاز وترسيم الحدود البحرية على طاولة المفاوضات من خلال "دبلوماسية البوارج والحفارات".

أما الآن فيبدو ان تركيا تحتاج إلى "تهدئة اللعب" لهضم تلك المكاسب، أولاً. وثانياً لإعادة ترتيب تحالفاتها وفك العزلة التي تعانيها، والتي تعمقت بعد المصالحة الخليجية مع قطر. وثالثاً لمعرفة كيف ستكون العلاقة مع الرئيس بايدن في ظل "الود المفقود" مع الرئيس التركي وتعارض المصالح مع أميركا في ملفات الأكراد، الحدود البحرية والصراع مع اليونان وقبرص، وعلاقة تركيا مع روسيا وصفقة صواريخ "أس 400". يضاف إلى ذلك اعتماد إدارة بايدن في سعيها لاستعادة أوراق قوة أميركا خارجياً على إنعاش قيم الحرية والديموقراطية وحقوق الإنسان. وهو الأمر الذي يضع هذه الإدارة في تناقض مباشر مع تركيا وإلى حد ما مع مصر والسعودية.

يضاف إلى ذلك سبب بالغ الأهمية، يتمثل في حاجة تركيا والدول الإقليمية الكبرى مثل مصر والسعودية إلى تقييم التغيرات الجيوسياسية المتسارعة و"ورشة التسويات والمفاوضات" المفتوحة من النووي الإيراني، إلى العلاقات السعودية الإيرانية، إلى ملفات اليمن وسوريا والعراق. فهناك تخوف جدي ان تؤدي العودة للاتفاق النووي مع إيران ورفع بعض العقوبات عنها، إلى توفير الأموال اللازمة لتعزيز نفوذها الإقليمي. ما يشجع التقارب بين مثلث القاهرة ـ أنقرة ـ الرياض لتشكيل عامل توازن وحائط صد للنفوذ الإيراني، وهو أمر تشجعه او على الأقل توافق عليه أميركا.

ثانياً: ترسيم الحدود البحرية

يشكل ترسيم الحدود البحرية في البحر المتوسط وبحر إيجه وموارد الغاز فيهما، أحد أهم أهداف الحرب السياسية والقانونية وحتى العسكرية التي تخوضها تركيا مع اليونان وقبرص ومن ورائهما بعض الدول الأوروبية. وتعتبر تركيا، وهي محقة في ذلك، أن موافقة مصر على ترسيم الحدود البحرية معها يقلب معادلة الترسيم في شرق المتوسط لصالحها. خاصة إذا ما تم تكريس اتفاقية ترسيم الحدود بين تركيا وليبيا (حكومة الوفاق). فقبول مصر بمبدأ تماس حدودها البحرية مع تركيا، يعني ضمناً قبولها بأن جزيرتي "رودوس" و"كاستيلوريزو" لا يحق لهما بمنطقة اقتصادية خالصة أو عدم إعطائهما أي تأثير في ترسيم الحدود. ويؤدي ذلك تلقائياً إلى زيادة المنطقة الاقتصادية التركية بحوالي 100 ألف كلم2، والمصرية بحوالي 15 - 25 ألف كلم2، والليبية بحوالي 40 كلم2. وتجدر الإشارة هنا إلى تفصيل بالغ الأهمية، وهو أنه رغم الصراع الحاد بين تركيا ومصر، فقد راعت تركيا مصالح مصر في ترسيم حدودها مع ليبيا، كما راعت مصر مصالح تركيا في ترسيم حدودها مع اليونان. وهو الأمر الذي كان موضع "تحيات وتقدير" من قبل وزيري خارجية البلدين. وجاء طرح مصر لمزايدة التنقيب عن النفط والغاز في شرق المتوسط مؤخراً، مع مراعاة الحدود المعلنة من قبل تركيا لجرفها القاري، لتؤكد هذا التوجه الذي أشاد به وزير الخارجية التركي واعتبر ان هذه "الخطوة ستؤدي إلى فتح باب لمباحثات ترسيم الحدود البحرية بين البلدين".

وهذه الحقائق والمعطيات تفسر "النقزة اليونانية" من احتمالات التقارب المصري التركي، والزيارات المتتالية لرئيس الوزراء ووزير الخارجية اليونانيين إلى مصر لتكريس التحالف والترسيم معها. وإلى ليبيا للمطالبة بإلغاء اتفاقية الترسيم مع تركيا التي وصفها وزير الخارجية اليوناني "بغير القانونية" بعد اجتماعه مع نائب رئيس الحكومة الليبية في طرابلس يوم 12 أبريل الماضي، في وقت كان فيه رئيس حكومة الوحدة الوطنية عبد الحميد الدبيبة يعلن من تركيا التي زارها على رأس وفد ضم 14 وزيراً بينهم وزيرة الخارجية عن تمسك بلاده بهذه الاتفاقية. ومع التغيرات المتسارعة في التحالفات والتفاهمات في المنطقة يبدو أن تركيا ستسعى جاهدة للانضمام إلى منتدى غاز شرق المتوسط. ولكن لا يصح التوقع بأن يكون ذلك سهلاً في ظل حرص مصر على الوفاء بالتزاماتها وتحالفها مع اليونان والدول الأوروبية المعنية، وفي ظل استمرار صراع تركيا مع قبرص واليونان.

ثالثا: المصالح الاقتصادية

لا تزال العلاقات الاقتصادية بين البلدين راسخة وعصية على كل الخلافات السياسية، ويكفي للدلالة على عمقها، الإشارة إلى أن حجم التجارة البينية بلغ خلال السنوات 2010 - 2019 حوالي 44 مليار دولار حسب بيانات جهاز الإحصاء المركزي المصري. والغريب ان اتفاقية التجارة الحرة بينهما التي بدأ نفاذها عام 2007، تم احترامها رغم عمق الخلافات السياسية، فانتقلت تركيا على قائمة الشركاء التجاريين لمصر من المركز 14 عام 2006 إلى المركز الخامس عام 2018، ثم إلى المركز الرابع في 2019.

ومع أن الميزان التجاري يميل لصالح تركيا بفائض بلغ خلال السنوات العشر الماضية حوالي 14.5 مليار دولار، لكن بالمقابل فإن نسبة تغطية الصادرات المصرية للواردات من تركيا هي الأعلى مقارنة ببقية الشركاء التجاريين لمصر، إذ وصلت في العام 2020 إلى حوالي 52 في المئة، مقابل 3 في المئة مع أوكرانيا، 10 في المئة مع البرازيل، و 14 في المئة مع روسيا، و16 في المئة مع الأرجنتين.

وتدرك تركيا جيدا ان تحسن العلاقات السياسية مع مصر سيفتح أبواباً واسعة لزيادة التبادل التجاري، والأهم من ذلك لزيادة الاستثمارات التركية وحجز حصة لشركات المقاولات في المشروعات الكبرى التي يتم تنفيذها إضافة بالطبع إلى تعاون القطاع الخاص التركي والمصري في إقامة المشاريع المشتركة في أفريقيا.

رابعا: عوامل سياسة داخلية

هناك دوافع سياسية داخلية، تتعلق بتصاعد الانتقادات للسياسية الخارجية، وتراجع شعبية حزب العدالة والتنمية الذي خسر انتخابات البلديات، وحرص أردوغان على ترميم شعبيته مع إقتراب موعد الإنتخابات الرئاسية. وتزامن ذلك مع تصاعد شعبية أحزاب المعارضة خاصة في مقاربتها للسياسة الخارجية، وربما يفسر ذلك القرار المتعلق بتشكيل لجنة برلمانية للعلاقة مع مصر وذلك بعد تصريح المتحدث بإسم حزب الشعب الجمهوري من تحت قبة البرلمان: "طالبنا منذ اليوم الأول للأزمة مع مصر بضرورة تحسين العلاقات معها، فهي مهمة للغاية من أجل مصالحنا الوطنية، وكشفت الأيام أن مخاوفنا كانت صحيحة".

خامساً: مشكلة الإخوان المسلمين

سقوط ورقة جماعة الإخوان المسلمين التي اعتمدتها تركيا لتعزيز نفوذها في دول المنطقة ومحاولة تغيير بعض الأنظمة فيها. وبات دعم الجماعة عبئاً ثقيلاً على تركيا وعائقاً أمام أي مسعى لتحسين علاقاتها مع دول المنطقة خاصة مع مصر والسعودية والإمارات. ويبدو ان الإجراءات التركية المتتالية لتقييد حرية حركة الإخوان وخاصة وسائل الإعلام التابعة لها، وحظر التعرض لمصر، مرشحة للتزايد. وهو الأمر الذي دفع بالقيادات السياسية للإخوان إلى مغادرة تركيا نحو بريطانيا وأميركا، في حين يتوجه كبار رجال الاعمال إلى ماليزيا وأندونيسيا. يضاف إلى ذلك التباين العميق على المستوى الفكري والسياسي بين حزب العدالة والتنمية وجماعة الإخوان خاصة في ما يتعلق بالعلمانية ودور الدولة.

دوافع مصر للتقارب

بالنسبة لمصر، فإن التقارب مع تركيا يسهم في تحقيق العديد من المكاسب، دون أن ينتظر ان يتم ذلك على حساب تحالفاتها مع الدول العربية والأوروبية،  وأبرز المكاسب ما يلي:

* تسهيل حل النزاعات الحدودية في شرق المتوسط ما يشجع التوسع في استغلال موارد النفط والغاز ويسهم بالتالي في جعل دول المنطقة مصدراً رئيسياً للغاز، وهو الأمر الذي يصب في مشروع مصر الاستراتيجي لتكون المركز الإقليمي للغاز.

* التوصل إلى تفاهمات مع تركيا بشأن الملف الليبي لدعم الحل السياسي والاستقرار، بما يكفل عدم تحول ليبيا إلى ساحة مفتوحة للجماعات الإسلامية ولصراع القوى الدولية كما حدث في سوريا ما يشكل تهديداً للأمن القومي المصري. اضافة إلى إمكانية التعاون بين القطاع الخاص التركي والمصري في ملف إعادة الإعمار في ليبيا.

* تشجيع تركيا على وضع حد نهائي لنشاط جماعات الإسلام السياسي وتحديدا الأخوان المسلمين، ما يحقق مصلحة كبرى لمصر في إغلاق هذا الملف الذي يسبب الكثير من الصداع. وكذلك تشجيعها أو دفعها لتقليص تدخلها في الشوؤن الداخلية للدول العربية وتحديداً في سوريا والعراق.

* تخفيف حدة الصراع مع تركيا، يسهل التفرغ لملف سد النهضة، بل يمكن لتركيا ان تلعب دورا إيجابيا فيه وتنفيذ وعدها بالتوسط مع أثيوبيا.