د. وليد عمار المدير العام السابق لوزارة الصحة اللبنانية:
لفصل السياسة عن الإدارة

30.06.2020
Twitter icon
Facebook icon
LinkedIn icon
e-mail icon
شارك هذه الصفحة مع آخرين
Print Friendly, PDF & Email
زينة أبوزكي

يختزن د. وليد عمار في تجربته التي امتدت على مدى 27 عاماً مديراً عاماً لوزارة الصحة انجازات كبيرة لعلّ أهمها النجاح في قيادة القطاع الصحي وتحقيق تلك الانجازات وسط حقول ألغام الحسابات والمصالح السياسية والسعي الدؤوب للطبقة السياسية لتطويع الإدارة العامة وفق مصالحهم، وظل الرجل طوال تلك المدة صمام الأمان لحماية وتمرير مشاريع بالغة الأهمية مثل التغطية الاستشفائية الشاملة لشرائح المجتمع اللبناني ومراكز الرعاية الصحية الأولية كافة وضبط سوق الأدوية بالحد الأقصى الممكن، وصولاً إلى التصدي لجائحة كورونا.

بالعلم والانفتاح والنفس الطويل تمكن د. وليد عمار من إدارة وزارة الصحة العامة والقطاع الصحي عموماً وتحقيق ما كان يصعب تحقيقه مع تعقيدات العمل العام وشح الموارد، ومع بلوغه السن القانوني كان لنا معه هذا الحديث.

يقول د. وليد عمار العمل في القطاع العام صعب خصوصاً في ظل الموارد البشرية والمالية المحدودة من جهة، وضرورة توفير الرعاية الصحية لمختلف شرائح المجتمع من جهة ثانية، ويلفت إلى أن مسؤوليات المدير العام تتجاوز وزارة الصحة لتشمل القطاع الصحي بمكوناته كافة مثل مؤسسات القطاع الخاص والمجتمع المدني، فضلاً عن المؤسسات العامة المعنية التي تتعاطى في الشأن الصحي وتقع خارج صلاحية الوزارة وهو ما يتطلب وضع سياسة للقطاع وليس للوزارة فقط.

قيادة القطاع الصحي

وعند وضع السياسة المتعلقة بالقطاع يضيف عمار: كان يجب الأخذ في الاعتبار الامكانات المتوفرة في القطاع وليس فقط في الوزارة، وهذا الخيار الاستراتيجي الذي اتخذ مع الشركاء كافة، كان أحد أسباب نجاح القطاع الصحي، الذي يصنّف بين أفضل النظم الصحية في العالم، فلبنان على سبيل المثال، من الدول القليلة التي حققت أهداف الألفية للتنمية في ما يتعلق بخفض نسب وفيات الأطفال والأمهات، وهذه الحوكمة التشاركية والتزام جميع الشركاء بسياسة الوزارة، أتاحت وضع وتنفيذ برامج عدة تتعلق بجودة الخدمات الاستشفائية والرعاية الصحية الأولية وجودة الدواء بمشاركة القطاع الخاص تخطيطاً وتنفيذاً وتمويلاً، ومنها على سبيل المثال الشبكة الوطنية للرعاية الصحية الأولية التي تتبع معظم مراكزها إلى مؤسسات المجتمع المدني.

قاعدة بيانات موحدة

ومن الانجازات التي يركّز عليها د. وليد عمار، خروج وزارة الصحة من مفهوم الخدمات إلى بناء المؤسسات لتقديم الخدمة كحق للمواطن من دون أن يطرق أبواب الوزارة خصوصاً بالنسبة الى التغطية الاستشفائية، فوضعنا قاعدة بيانات موحدة مستفدين من جميع الجهات الضامنة، وبما ان وزارة الصحة تقدم التغطية الاستشفائية لكل مواطن لا ينتمي لأي من الجهات الضامنة، فبالتالي أصبح جميع المواطنين يتمتعون بالتغطية الاستشفائية وفي جميع الأراضي اللبنانية، وساعدت قاعدة البيانات في تعزيز اللامركزية وتسهيل الإجراءات، وأصبح كل مواطن يحصل على الموافقة من منطقته فلم تعد هناك ازدواجية في التغطية وأصبحت فواتير المستشفيات ترسل الكترونياً إلى الوزارة وبالتالي تمّ تحسين الضوابط وترشيد استخدام الموارد المتاحة للوزارة وضبط الانفاق.

برامج الرعاية الصحية

ويلفت عمار إلى أن من أهم المؤشرات على نجاح هذه الخطط كان انخفاض الانفاق على الصحة العامة من 12.4 في المئة من الناتج المحلي العام 1998 إلى 7.5 في المئة، ما يعني أن زيادة الخدمات للمواطنين وتحسين نوعية الخدمات ترافق مع خفض في الانفاق. أما بالنسبة إلى انفاق الأسر الفقيرة فكان 20 في المئة من الدخل يذهب إلى الصحة فانخفض إلى النصف تقريباً، وهذا نتيجة خفض كلفة الاستشفاء بعد انشاء مراكز الرعاية الصحية الأولية مقابل رسوم رمزية مع إمكانية الحصول على الأدوية "الجنيسة" Genericالتي نحصل عليها من اليونيسيف بأسعار زهيدة، هذا فضلاً عن القرارات المتتالية التي خفضت أسعار الأدوية كإعادة النظر بهيكلية التسعير وتخفيض الأسعار ما ساهم في تخفيض الفاتورة الصحية.

من ناحية ثانية، عملنا على قانون استقلالية المستشفيات الحكومية التي باتت تتمتع باستقلال إداري ومالي ومرونة في الإدارة وأصبح هناك مجال كي نتنافس مع القطاع الخاص، حيث أصبح تمويل المستشفى يرتبط بإنتاجيتها وفق عقود مع وزارة الصحة وغيرها من الجهات الضامنة وبالتالي لا يمكن أن تتقاضى أموالاً إلا إذا كانت منتجة، وهو ما رفع انتاجية المستشفيات الحكومية ومستوى جودة الخدمات لأنها تخضع لنظام اعتماد المستشفيات الذي تخضع لها المستشفيات الخاصة.

لا بدّ من ترسيخ مبدأ: "الوزير للسياسة والمدير العام للإدارة"

وعن تحديات الوظيفة ولاسيما أنه عاصر 9 وزراء للصحة العامة  يقول د. وليد عمار، تختلف طبيعة عمل المدير العام عن الوزير الذي لديه منطلقات سياسية وشعبية بينما المدير العام لديه منطلقات علمية وإدارية. لذلك يجب أن يكون هناك توازن بين المشروع السياسي وأصول العمل الإداري والقرارات المبنية على العلم وليس على الاعتبارات السياسية. بالنسبة لي العلاقة بين الوزير والمدير العام كانت جيدة دائماً وكان هناك تفاهم بأن السياسات الطويلة الأمد يعمل عليها المدير العام مع الشركاء في القطاع وتبنى على أسس ومؤشرات علمية. وفي المقابل هناك هامش من الحركة للوزير لتلبية متطلبات معينة قد لا تتناسب مع الأنظمة والخطط الموضوعة ولكنها تلبي احتياجات الناس فيجب أن يكون هناك نوع من التوازن لضمان سير العمل بشكل منتظم وفي الوقت نفسه لكي يتمكن الوزير من حل مشاكل الناس حسب المتطلبات المستجدة.

هبوط سعر العملة جعل من لبنان أكثر تنافسية في السياحة الطبية

وعن إمكانية منافسة لبنان في مجال السياحة الطبية، يقول عمار عملنا كثيراً على جودة الخدمات ونظام اعتماد المستشفيات الموجودة، الذي هو من أوائل الأنظمة في العالم العربي وهناك الكثير من الدول أخذته مثالاً، وهذا ما يضمن للمريض من أي دولة كان بخاصةً من الدول العربية حصوله على خدمات ذات جودة عالية، ويشير إلى منافسة من بعض الدول التي كانت تقدم كلفة أقل ولكن اليوم لا أعتقد أن هناك أحداً قادر أن ينافس لبنان لا من حيث جودة الخدمات ولا من حيث الكلفة نتيجة هبوط سعر العملة، لكن لا شك أن السياحة الطبية ترتبط بالوضع الأمني وبالخدمات الأخرى.

مواجهة "كورونا"

يعتبر المدير العام السابق لوزارة الصحة أن جائحة كورونا كانت الامتحان الأخير وربما الأصعب، قبل ان اترك منصبي، ولكن التعاطي مع الوباء بهذا القدر العالي من الحرفية لم يكن وليد ساعته. فقد تمّ بناء النظام الصحي منذ سنوات، وكذلك برامج الترصد الوبائي ومقدرات التشخيص والمتابعة وكنا على استعداد لمواجهة الوباء، كما واجهنا اوبئة اخرى مثل H1N1 والسارس وانفلونزا الطيور والتي لم تأخذ ضجة، علماً أن أداءنا كان جيد جداً. ويؤكد عمار أنه لولا الاستعداد والتحضير وبناء قدرات مستشفى الحريري والمختبر التابع لها الذي أصبح معتمداً من قبل منظمة الصحة العالمية لما تمكّنا من تشخيص أول حالة كورونا، حيث إننا عملنا على تدريب الموظفين ووضعنا موازنة لمستشفى الحريري وعقداً خاصاً بمكافحة الأوبئة منذ ثماني سنوات، هذا فضلاً عن متابعة تطور الوباء عالمياً باستمرار، وأنا شخصياً كنت أتابع كل دولة وأول حالة حدثت في إيران بعثنا فريق الوزارة إلى الطائرة القادمة من إيران واكتشفنا أول حالة فوراً وهي اللحظة الحاسمة التي أنقذت لبنان. وما تحقق في مستشفى رفيق الحريري يؤكد على ضرورة بناء قدرات القطاع العام.

دور القطاع الخاص

وعن القطاع الصحي بشكل عام يشدّد عمار على دور وزارة الصحة التنظيمي والأساسي دائماً، فالقطاع الخاص هو ثروة لأي بلد إذا كانت الدولة قادرة على تنظيمه، وهذا مبدأ ينطبق على كل القطاعات وتحديداً على القطاع الصحي لحساسيته وضرورة مراقبة جودة الدواء والخدمات الاستشفائية، ولا ننسى هنا مؤسسات المجتمع المدني التي تتعاطى بالصحة، فالصحة ليست فقط مستشفيات ودواء بل وقاية وتوعية ورعاية صحية أولية، ومؤسسات المجتمع المدني لديها إمكانات وهي أيضاً بحاجة إلى رعاية الدولة، فالمجتمع المدني خلاق ونشيط ولكن بحاجة إلى توجيه ورعاية من الدولة. على مؤسسات الدولة أن تمتلك الرؤية وأن تكون لديها قدرات قيادية وعلاقة تشاركية مع مختلف الشركاء كي توحد الجهود في خدمة أهداف الصحة العامة.

نصائح للمدير العام الجديد

يشدّد عمار على أن العمل في القطاع العام يختلف تماماً عن القطاع الخاص لأنه مقيد بقوانين عديدة فليس كل من لديه فكرة جيدة يمكنه تطبيقها، هناك قوانين وهناك امكانات محدودة جداً، فأهم شيء أن يعرف القوانين وتطويرها لا مخالفتها، وأن يكون خلاقاً لأن الامكانات المتوفرة محدودة جداً، كما عليه الانفتاح على جميع الشركاء وأن لا ينسى أنه ليس مدير عام وزارة الصحة بل مدير عام قطاع الصحة فهو مسؤول عن القطاع ونتائجه، ويشدد على أن النتائج المحققة هي نتيجة مجهود جماعي بين القطاعين العام والخاص والمؤسسات العاملة في القطاع الصحي في البلد، فعليه أن يحافظ على هذا التراث الذي تم بناؤه بالحوكمة التشاركية والشفافية.