الرنمينبي الرقمي وتسعير النفط باليوان:
إستطلاع بالنار لحصون الدولار

30.05.2020
Twitter icon
Facebook icon
LinkedIn icon
e-mail icon
شارك هذه الصفحة مع آخرين
Print Friendly, PDF & Email

كتب ياسر هلال 

هل تندلع الحرب بين أميركا والصين، ومتى؟

الحرب اندلعت فعلاً على جبهات التجارة والعملات وتقنية المعلومات والتكنولوجيا المالية، إضافة بالطبع إلى الجبهات الدبلوماسية والإعلامية، وتقوم الصين بشن سلسلة من "الغارات" الافتراضية وعمليات "الاستطلاع بالنار" على الحصون الرئيسية الأميركية وفي طليعتها الدولار. ويبدو ان الصين هي أول دولة تخوض حرباً لتقاسم النفوذ مع أميركا وفق خطة مدروسة و"بنك أهداف" محدد لكل مرحلة. والهدف الرئيسي للمرحلة الحالية هو تدويل العملة الصينية وجعلها عملة للإحتياطات والتبادل جنباً إلى جنب مع الدولار الذي استأثر بهذه المهمة المربحة جداً لمدة أطول من المعتاد تاريخياً. ومع ان قائمة الغارات طويلة ومتداخلة بين السياسي والمالي والنقدي والتجاري، فنكتفي بإلإشارة إلى "غارتين"مباشرتين تستهدفان الدولار الأولى؛ تسديد ثمن النفط المستورد باليوان الصيني أو بالذهب مع البدء بإبرام عمليات التبادل التجاري مع الدول المجاورة بالعملات المحلية، والثانية؛ الاطلاق التجريبي لليوان الرقمي. 

لكن من ينتظر أن تنتقل الحرب إلى الجبهة العسكرية، فقد ينتظر طويلاً، لأن القوتين العظميين تكملان بعضهما بعضاً، والحرب بينهما ليست "حرب إلغاء" كما كانت مع الاتحاد السوفياتي، بل هي حرب "محاصصة". فالصين لا تخوض حرباً عقائدية بهدف تغيير النظام العالمي وفرض إيديولوجية سياسية وثقافية واقتصادية مختلفة، بل تسعى إلى دور أكبر في هذا النظام وفرض الاعتراف بهذا الدور من قبل أميركا بالذات. وبمعنى آخر، الصين تريد فرض "اليوان الأحمر" وليس "الكتاب الأحمر"، وهي تستخدم الأسلحة والمقاربات ذاتها التي تستخدمها أميركا، والحرب بينهما ستكون مثل العادة على حساب الدول والشعوب النامية المنضوية تحت راية كل منهما.

هل حان وقت إحياء حركة عدم الانحياز.. راجع مقال د. عمرو موسى أليس الوقت مناسبًا لـ «عدم انحياز» جديد؟

من "الدولار اللص" إلى "اليوان اللص"

لنبدأ بقضية التسعير باليوان، فقد أعلن بنك الشعب الصيني (البنك المركزي) عن الاستعداد لتسوية الصفقات الآجلة لواردات الصين من النفط باليوان المقوم بالذهب، أي أن مصدري النفط بإمكانهم الحصول على قيمة صادراتهم عند استحقاقها بالذهب أو باليوان، وكأن التاريخ يعيد نفسه، فتستخدم الصين ذات السلاح الذي استخدمته أميركا لتستولي على "الخلاصة المركزة" لموارد العالم، وهو إتفاقية "بريتون وودز" الموقعة في 22 يوليو 1944، التي منحت أميركا "كارت بلانش" للسيطرة "والسطو" على هذه الموارد، إذ نصت على ربط العملات بالدولار على قاعدة تثبيت سعر تحويله إلى ذهب بسعر 35 دولاراً لكل أونصة، ما أدى إلى تحول الدولار تلقائياً إلى عملة الاحتياطات الدولية وإلى عملة تسوية المعاملات المالية والتجارية. وبعد انتهاء مرحلة إحكام السيطرة والنفوذ، بدأت "مرحلة السطو"، في 15 أغسطس 1971، حين ألغى الرئيس ريتشارد نيكسون البند الرئيسي في الاتفاقية وأقدم على تحرير سعر الدولار ليصبح سعر التحويل وفقاً للعرض والطلب، ومنذ ذلك التاريخ اطلق الاقتصاديون على الدولار لقب "الدولار اللص". 

آلية تسديد النفط باليوان أو بالذهب، تحضير لمرحلة "اليوان اللص" إلى جانب "الدولار اللص"

أما كيف يكون الدولار، لصاً، فنستعير الجواب من مقال د. جواد العناني المنصات والعملات الرقمية ميدان الحرب المقبلة بين أميركا والصين، بقوله: "إن أميركا تطبع الدولار بتكلفة 2 سنت وتبيعه إلى العالم بـ 100 دولار". 

وعليه، فلننتظر كم ستستغرق عملية تطور اليوان إلى عملة لتسوية المعاملات الدولية وعملة احتياط، ومن ثم إلى "اليوان اللص"، علماً ان مجلة فورين بوليسي توقعت ان تتراوح المدة ما بين 15 و 20 سنة، ليصبح "الورق الأحمر" منافساً  "للورق الأخضر" في "لطش" مقدرات الشعوب، ولذلك نلاحظ ان الصين تقوم منذ العام 2014 بتحويل جزء من احتياطاتها الأجنبية من الدولار إلى الذهب حيث مساهمته بهذه الاحتياطات من 2.2 في المئة إلى 1.37 في المئة (نحو 106.67 مليارات دولار) في أبريل 2020. 

الصين ليست الاتحاد السوفياتي، فهي جزء من النظام العالمي وهدفها فرض "اليوان الأحمر" وليس "الكتاب الأحمر"

ولا شك أن نجاح هذه المبادرة سيساهم في كسر احتكار الدولار لتسعير النفط، ولكن مع ملاحظة أن تأثيرها سيكون محدوداً لأن الدول الرئيسية المصدّرة للنفط إلى الصين لن تشارك فيها وخصوصاً دول الخليج، وقد تقتصر المشاركة على دول مثل إيران وفنزويلا وربما روسيا بشكل بسيط. 

تسوية المعاملات بالعملات المحلية

الحلقة الثانية في سلسلة "الغارات" الهادفة إلى تدويل العملة الصينية، كانت إعلان الصين عن بدء تسوية المعاملات التجارية مع الدول المجاورة بالعملات المحلية. وللتذكير، فإن الصين ترتبط باتفاقات اقتصادية وتجارية ومالية في إطار تكتلات تضم نصف سكان العالم، ونحو ثلث الناتج المحلي العالمي، وهي منظمة شنغهاي للتعاون و (آسيان + 3)، وتقترب الصين بسرعة من بلوغ هدفها المرحلي وهو رفع حصة تجارتها إلى 50 في المئة مع هذه الدول، المستعدة أصلاً للتخلي عن الدولار في المعاملات التجارية لصالح العملات المحلية أو لصالح عملة جديدة مثل اليوان أو اليوان الرقمي. 

أما الحلقة الثالثة وهي حلقة مركزية في سلسلة تدويل العملة الصينية، فتتمثل بحصة اليوان في حقوق السحب الخاصة لدى صندوق النقد الدولي، وقد حققت الصين إصابة مؤكدة في "غارة" شنتها في أكتوبر من العام 2016 عندما تمّ قبول الرنمينبي (اليوان) كعملة خامسة في سلّة عملات الصندوق المكونة لما يُعرف بحقوق السحب الخاصة، وتتوزع هذه الحصص بواقع 41.7 في المئة للدولار الأميركي، 30.9 في المئة لليورو، 10.9 في المئة لليوان الصيني، 8.3 في المئة للين الياباني و 8.09 في المئة للجنيه البريطاني، ورغم أهمية الإصابة في تلك الغارة، فإن الصين تتطلع حالياً إلى الإصابة الأكبر، وهي زيادة حصة عملتها بما يتناسب مع قوتها الاقتصادية كثاني أكبر اقتصاد في العالم، وهذه الزيادة ستكون على حساب اليورو والدولار. 

"غارة" اليوان الرقمي 

تمثلت هذه "الغارة" بالإطلاق التجريبي لليوان الرقمي في أربع مدن رئيسية، وهي لم تأت ـ كما يظهر ـ كردة فعل على الحرب التجارية، فقد استغرق التحضير لها أكثر من خمس سنوات، والإنجازات التي حققتها شركة هواوي على صعيد تقنيات الجيل الخامس والذكاء الاصطناعي، لم تكن سوى محطة على طريق هذه التحضيرات وتطوير البنية التحتية للتكنولوجيا المالية، وذلك ما يفسر "الحرب الشعواء" التي يشنها الرئيس ترامب على الشركة، ويرجح ان يلقى اليوان الرقمي قبولاً واسعاً داخل الصين حيث اعتاد الناس على استخدام تطبيقات مثل  WeChat وAliPay وهناك تقديرات بأن نحو90 في المئة من جميع المعاملات النقدية تتم إلكترونياً. 

الإستعداد للإطلاق الدولي للرنمينبي الرقمي المدعوم من البنك المركزي 

وطبعاً ستكون الخطوة الثانية هي الاطلاق الدولي لليوان الرقمي واحتمال استخدامه لتسعير السلع بدلاً من الدولار، والعامل المهم في حدوث قبول دولي للعملة الرقمية هو أن بنك الشعب الصيني (البنك المركزي) هو الذي يصدر العملة ويضمنها، إضافة إلى تزايد عدد الدول التي تعاني من مبالغة أميركا باستخدام سلاح العقوبات مستغلة سيطرة الدولار على المعاملات الدولية. 

وسيكون لمبادرة اليوان الرقمي أبعاد وتأثيرات مالية وجيوسياسية متعددة لعلّ أبرزها انه سيشكل جسراً للمعاملات المالية والتجارية يمرّ فوق أي عقوبات أميركية، خصوصاً ان المدفوعات الرقمية تقوم على التواصل بين الأجهزة لتبادل البيانات والمدفوعات، من دون وساطة المصارف والمؤسسات المالية، كما في حال المدفوعات غير النقدية التي تعتمد نظام تحويل الأموال الدولي الذي يتحكم فيه الدولار الأميركي ونظام "السويفت".  

هدف الصين تدويل اليوان وجعله عملة للإحتياط والتبادل إلى جنب الدولار

"حقل" الصين و"بيدر" أميركا

تلك هي "حسابات حقل" الصين، ولكن ماذا عن "حسابات بيدر" أميركا؟

بعيداً عن الردود الانفعالية والاستعراضية للرئيس دونالد ترامب كتحميل الصين مسؤولية فيروس كورونا بهدف تشويه سمعتها وضرب مصداقيتها كشريك في قيادة العالم، وتهديده بقطع العلاقات معها، يمكن القول إنه من المبكر جداً الحديث عن تغيير جذري في موازين القوى لصالح الصين، فليس كافياً ان تمتلك الصين الأسلحة اللازمة "لشن غارة" أو لتربح معركة، المهم أن تمتلك الاسحلة اللازمة لصدّ "الغارات" ولتربح الحرب، ولذلك، يلاحظ أن الصين تقيس "بميزان الذهب" حجم الإضرار المتوقعة "لغاراتها" على أميركا وعلى قوة الدولار تحديداً، وتسعى الى الحد منها أو حصرها في أضيق نطاق ممكن، خصوصاً ان عناصر قوتها هي عناصر ضعفها في الوقت ذاته، ويرجع ذلك إلى أسباب عدة نكتفي بذكر أهمها:

1. لا تزال أميركا هي "الدولة العظمى" ولا يزال يرتبط بعملتها نحو 70 في المئة من اقتصادات دول العالم، بما فيها الصين، وأي تدهور في قيمة الدولار سيدفع ثمنه كل العالم، وستكون الصين في طليعة المتضررين لأنها تمتلك أكبر احتياط من النقد الأجنبي بالدولار، والذي بلغ في شهر أبريل الماضي نحو 3.09 تريليونات دولار رغم محاولاتها الحثيثة لتخفيضه من الذروة التي بلغها في العام 2014 وهي 3.9 تريليونات، كما إنها أكبر مستثمر في العالم في سندات الخزانة الأميركية بنحو 1.1 تريليون دولار. 

2. تدرك الصين جيداً ان أهم نقاط قوتها أي الصادرات وتحكمها بسلاسل التوريد العالمية، تصبح أهم نقاط ضعفها، إذا ألحقت "غاراتها" ضرراً كبيراً بأميركا، التي تستطيع ـ رغم الأضرار الجانبية ـ تعطيل هذه السلاسل، وذلك ما بدأ فعلاً بالحرب التجارية والرسوم والقيود وتشجيع الشركات الأميركية على نقل أنشطتها من الصين إلى أميركا أو دول اخرى، ودفع الدول الأوروبية الى انتهاج سياسات مشابهة... هل هي مجرد مصادفة دعوة المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية في تقرير نشر في مايو الجاري، إلى تنظيم العلاقات الصينية الأوروبية بطريقة تقلل الاعتماد على الاستثمار والتجارة مع الصين.

 

  

https://www.youtube.com/watch?v=yjNtnJj31aI

على أي حال، يمكن القول إن التقدم الكبير الذي تحرزه الصين معطوفاً على التراجع النسبي للاقتصاد الأميركي (من 40 في المئة من الناتج المحلي العالمي في 1960 إلى 20 في المئة حالياً)، لا بدّ ان يؤدي إلى تسوية تقوم على مراجعة الدور المهيمن لأميركا وللدولار لصالح دور أكبر للصين واليوان، والأرجح على قاعدة لا "غالب ولا مغلوب"، مع استمرار الصراع أو التنافس بينهما. 

أما كيف تتحدد شروط التسوية ومستقبل المنافسة والصراع، فإن ذلك يتوقف على الإجابة على سؤالين كبيرين وهما: 

الأول: هل ستتحول الصين إلى الاقتصاد الحر فعلاً وتتحمل "الغرم والغنم" من العولمة وفتح الأسواق والمشاركة في قيادة العالم، أم تبقى في المنطقة الرمادية، حيث لا حوكمة حقيقية للشركات (من يعرف، من يمتلك هواوي وكيف تدار) ولا أسواق مالية فعالة ومنظمة، ولا حرية كاملة لحركة رأس المال، ولا تحرير كاملاً لسعر صرف اليوان.

السؤال الثاني: هل ستبقى أميركا متمسكة بالاقتصاد الحر والعولمة، أم تتبنى شعار ترامب "أميركا أولاً، والأمركة بدل العولمة".

الخطر الرئيسي على مكانة الدولار لا ينبع من الصين بل من الولايات المتحدة نفسها 

ان مصير هذه الحرب لن تحددها قوة الصين فقط، بل ضعف أميركا وهو أمر يشرحه ببلاغة وزير الخزانة الأميركي الأسبق هنري بولسون جونيور في مقال مهم نشر في FOREIGN AFFAIRS  بتاريخ 19 مايو الجاري، بقوله "إن الخطر الرئيسي على مكانة الدولار لا ينبع من الصين بل من الولايات المتحدة نفسها" .

 للحديث صلة في مقال حول:

* الحرب بين الصين وأميركا أشد خطورة إذا كانت باردة، لأنها تعني تقطيع أوصال الاقتصاد العالمي. 

*كيف يمكن للدول العربية والنامية حماية ثرواتها وفرص النمو في ظل الحرب الدائرة بين الجبارين.