العولمة في زمن ترامب وكورونا:
"القرية عالم كبير" و"إفقار جارتي"

05.04.2020
Twitter icon
Facebook icon
LinkedIn icon
e-mail icon
شارك هذه الصفحة مع آخرين
Print Friendly, PDF & Email
كتب ياسر هلال 

... وجاء فيروس كورونا في الوقت المناسب، ليسهم في تسهيل وتسريع تحولين جذريين في مسار الاقتصاد العالمي والعلاقات الدولية، كانا يتشكلان منذ مدة، ولكن لم يكن سهلاً اكتمالهما من دون كارثة بحجم حرب أو وباء... 

التحول الأول: تراجع دور الولايات المتحدة كقائد شبه وحيد للعالم، من دون أن يكون محسوماً هل السبب هو التلاشي التدريجي لقوتها، أو تغير قواعد اللعبة بشكل لم يعد هذا الدور يخدم مصالحها، أم السببين معاً. 

التحول الثاني: إنتهاء عصر العولمة بالصيغة التي سادت خلال العقود الثلاثة الماضية التي أعقبت انهيار الاتحاد السوفياتي، وهو الشكل الذي ترى أميركا أنه استنفذ صلاحيته لخدمة مصالحها، بعد بروز قوى مثل الصين أكثر قدرة على الاستفادة منه.

وقبل البداية ولكي "يركب التحليل"، يجب التأكيد على أنه لا يجوز مقاربة تحولات بهذا الحجم والتعقيد، على قاعدة "نظرية المؤامرة" ووجود قوى خفية تدير اللعبة، ولا على قاعدة الإستنتاجات القاطعة من نمط "نهاية أميركا" و"سقوط العولمة" الى آخر المعزوفة...

لنبدأ من المعطيات الواقعية التي رافقت ونجمت عن انتشار فيروس كورونا، ولنلاحظ إن أهم تداعياته، هو الإنكشاف الكارثي لعدم فعالية نظام الحوكمة الدولي ممثلاً بمؤسساته الرئيسية مثل الأمم المتحدة، منظمة الصحة العالمية، صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، ومنظمة الطيران المدني الدولي وصولاً إلى منظمة التجارة العالمية المنسية أصلاً. وترافق ذلك، مع انكشاف أكثر كارثية لأنظمة الحكم الوطنية خصوصاً في الدول الصناعية الكبرى، والتي للأسف اندفعت لرفع "الأسوار والقلاع" لحماية حدودها  من غزو "الفيروس الأجنبي" ولاعتماد أو التوسع في اعتماد سياسات حمائية تجارية ونقدية مستعيدة سياسة "إفقار جارتي" أو "شحذ جارتي" Beggar -thy- neighbour ، التي كدنا ننساها في زمن العولمة. وليتم استبدال شعار "العالم قرية صغيرة" بشعار "القرية عالم كبير".

الرئيس الصربي: الصين وحدها تساعدنا، أما الاتحاد الأوروبي فهو مجرد "قصة خرافية"

كورونا يكشف عورات أميركا

يشير مقال مهم نشر في مجلة فورين بوليسي إلى ثلاثة عوامل تشكل قوة الدول العظمى وهي بالإضافة طبعاً إلى القوة العسكرية والاقتصادية: القوة الداخلية، ممثلة بالمؤسسات الدستورية وفعالية الأنظمة الاقتصادية والعسكرية والاجتماعية والصحية طبعاً، ثانياً، القدرة على توفير المنافع والسلع العامة على المستوى الدولي، وثالثاً القدرة والرغبة لحشد وتنسيق استجابة عالمية للأزمات، والغريب أن الولايات المتحدة كما الكثير من الدول الصناعية رسبت في "امتحان كورونا" وبالمواد الثلاث. 

هل تسعى أميركا لتطوير صيغة جديدة للعولمة، أكثر انسجاماً مع مصالحها في عالم بات متعدد الأقطاب 

لنلاحظ باختصار شديد التعثر الأميركي في المجالات الثلاثة: 

على مستوى القوة الداخلية: تبين أن النظام الصحي بشقيه الحكومي والخاص، غير مهياً ولا مؤهل للتعامل مع الوباء حتى في المرحلة الأولى لانتشاره. فأميركا بعظمتها لا تمتلك المخزون الكافي ولا القدرة على الانتاج السريع لأجهزة التنفس الاصطناعي ولا مجموعات اختبار أو فحص المصابين، ولا حتى أدوات ومنتجات التعقيم وملابس العزل للكوادر الطبية والتمريضية. نعم.. ففي ولاية نيويورك وليس في قندهار أو مقديشو، إضطر الممرضون والإطباء لارتداء أكياس القمامة البلاستيكية بدلاً من ملابس العزل... وكان الإرتباك هو القاسم المشترك في أداء مختلف المؤسسات والأجهزة المحلية والفدرالية والعامل الرئيسي في تقويض الثقة في قدرة وكفاءة النظام system على إدارة الأزمة. 

على مستوى توفير مساعدات دولية، كشف الفيروس تراجعاً مخيفاً في الدور التاريخي للولايات المتحدة، لتقديم مساعدات مالية وفنية وبشرية لمواجهة أزمات الكوارث الطبيعية والحروب والمجاعات، وبدت في هذه الأزمة أنها هي التي تحتاج المساعدة، وذلك ما حصل فعلاً. 

على مستوى القيادة العالمية، ظهر كان الرئيس دونالد ترامب من خلال تغريداته، وكأنه "كاوبوي" يطلق الرصاص "شمال يمين"، ترهيباً وتمويهاً لعدم القدرة أو عدم الرغبة في مواكبة التطورات وقيام أميركا بدورها لبلورة مبادرة دولية لمواجهة "كورونا" وحشد القوى اللازمة لتنفيذها. وللمقارنة والتوضيح، نشير إلى أنه خلال أزمة فيروس "إيبولا" في العام 2014، أخذت الولايات المتحدة زمام المبادرة وقادت تحالفاً دولياً واسعاً لمواجهة الأزمة، ونجحت في ذلك.

 

الطبيعة "تكره" الفراغ 

قلوَ يا فرعون مين فرعنك.. أجابه تفرعنت وما حدا ردني... ففي مواجهة ارتباك أميركا وميلها للإستقالة من دورها، إندفعت الصين لتعبئة الفراغ من خلال جهد مخطط ومنسق على مختلف الصعد السياسية والاقتصادية والطبية والإعلامية، وبهدف واضح، هو تقديم نفسها كقوة عظمى جديرة بقيادة العالم، أو على الأقل القيام بدور محوري في قيادته. والمفارقة أن المقاربة الصينية كانت تتمحور حول المكونات الثلاثة للدولة القائدة دولياً المشار إليها في مقال الـ فورين بوليسي. 

وقدمت الصين نفسها باعتبارها النموذج الذي يجب ان يحتذى في أسلوب الكشف عن المصابين والحجر الصحي على مدن ومقاطعات، وبناء وتجهيز مستشفيات الخ.. ولكي لا نغرق بالشرح والتحليل واستعراض الوقائع وهي كثيرة، نذهب إلى كلام مباشر للمتحدث باسم وزارة الخارجية تشاو ليجيان الذي قالها بكل بوضوح إن "الصين وضعت معياراً جديداً للجهود العالمية لمكافحة الوباء"، مضيفاً  أن "قوة الصين وكفاءتها وسرعتها قدمت نموذجاً في قوة الإدارة الداخلية". 

كما نجحت الصين في لعب دور الدولة القادرة والراغبة في توريد المعدات والمستلزمات الطبية اللازمة لكل دول العالم. والطريف بالأمر، انه في حين عجز الاتحاد الأوروبي عن الاستجابة لاستغاثة إيطاليا، كانت الصين حاضرة لتوريد حزمة متكاملة شملت أجهزة التنفس الاصطناعي والأقنعة وملابس العزل وعشرات آلاف مجموعات الاختبار وايضاً فرقاً طبية كاملة التجهيز، وطبعاً لم تقتصر المساعدات على إيطاليا بل شملت عدداً كبيراً من الدول في أوروبا وآسيا وأفريقيا وصولاً إلى أميركا ذاتها. ولعل أبلغ تلخيص للمقارنة بين مقاربة الصين وبقية الدول الغربية، هو تصريح الرئيس الصربي تعليقاً على تسلم بلاده شحنة من المساعدات الصينية بقوله "إن الدولة الوحيدة التي يمكنها مساعدتنا هي الصين، أما الاتحاد الأوروبي والتضامن بين دوله فهو مجرد "قصة خرافية".

كما اندفعت الصين لتعلب الدور المفترض لأميركا بإطلاق مبادرات دولية لمواجهة الأزمة، وهي مهمة تولاها شخصياً الرئيس الصيني شي جين بينغ الذي قاد "حملة علاقات عامة" شملت مختلف الدول المؤثرة طارحاً مبادرة دولية للتعامل مع الأزمة وتداعياتها المتوقعة، وقال بشكل واضح في رسالة وجهها إلى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إن الصين مستعدة للعمل مع فرنسا لوضع وتنفيذ مبادرة تعاون دولي للوقاية من فيروس "كورونا" والسيطرة عليه... وتحسين الحوكمة العالمية للصحة العامة".

أميركا رسبت في امتحان كورنا كدولة عظمى، والصين قدمت نفسها كبديل

... وترامب يكره العولمة 

إذاً، رسبت أميركا في الامتحان، ونجحت الصين، ولكن السؤال الكبير هو هل تراجع الدور القيادي للولايات المتحدة وميلها لعدم الانخراط المباشر في المشاكل والنزاعات والأزمات، هو بسبب اعراض "شيخوخة مبكرة"، وبداية نهاية الأمبراطورية الأميركية؟ أم هو نتيجة قراءة أميركية جديدة للسيطرة والنفوذ والثروة والقيادة الدولية، وما يستتبع بالتالي قراءة جديدة للعولمة وإعادة النظر بالشعارات والأهداف التي اعتبرت من البديهيات مثل، حرية التجارة والاستثمار وانتقال رؤوس الأموال والأسواق المفتوحة. 

مرة ثانية، يبدو الأمر مزيجاً من الحالتين، فأميركا اليوم هي بلا شك أضعف في بعض المجالات، ومنافسوها أقوى في مجالات معينة، ولكن الحقيقة التي يجب الا تغيب هي أنه لم يشهد التاريخ سيطرة قوة وحيدة على العالم. وحتى أميركا لم تكن القوة العظمى الوحيدة، ولطالما كان لديها منافسون أقوياء. أما فترة التسعينات وبداية الألفية الثانية أي بعد انهيار الاتحاد السوفياتي والتي تسيدت فيها أميركا العالم منفردة، فكانت "لحظة عابرة واستثنائية". ولكنها كانت اللحظة المناسبة لأميركا لاعتماد وتسويق العولمة والأسواق المفتوحة بفهومها الواسع جداً، باعتبارها الوصفة السحرية لتحقيق مصالحها. وهي الوصفة التي ظلت صالحة حتى "البارحة"، حين بدأت الدولة العميقة في أميركا، ترى فيها وصفة تدميرية، بوجود قوى تمتلك ميزات تنافسية أكبر وتعتمد سياسات نقدية ومالية وتجارية موجهة لغزو الأسواق العالمية وحتى الأميركية. 

وعليه، فإن تولي دونالد ترامب سدّة الرئاسة لم يكن مصادفة أو "فلتة شوط"، بل كان الرجل المطلوب بشخصيته وإسلوبه وقناعاته، لتنفيذ عملية تحول جذرية يمكن وضع عنوانين أساسيين لها: الأول إعادة رسم دور وموقع أميركا كقوة عظمى في عالم متعدد الأقطاب. والثاني إعادة رسم مفاهيم وآليات العولمة وأدوار وأهداف المؤسسات الدولية المعنية، وذلك ليس تحليلاً او إكتشافاً بل جاء على لسان ترامب في خطابه الشهير في 22 يوليو 2016، بمناسبة إعلان الحزب الجمهوري ترشيحه للرئاسة، فقال: "الليلة سأطلعكم بوضوح على خطة عملي التي سيكون عنوانها أميركا أولاً، وسيكون شعارها الأمركة وليس العولمة".

ترامب في خطاب ترشيحه للرئاسة: أميركا أولاً..  والأمركة بدل العولمة

الدولة العظمى: أميركا أولاً 

تبنت الإدارة الأميركية فور تولي ترامب الرئاسة سياسات ثابتة ومتدرجة لتقليص دورها المباشر في قيادة العالم خصوصاً في المواقع والملفات التي تتطلب تضحيات مالية أو بشرية. ولنسترجع عشرات المحطات مثل أفغانستان، شبه جزيرة القرم، كوريا الشمالية، الشرق الأوسط وتحديداً سورية والأكراد، اليمن. ولنتذكر التصريحات "الصريحة" للرئيس الأميركي عن ضرورة ان يدفع حلفاء أميركا "ثمن حمايتها" بما في ذلك إسرائيل. وكانت أميركا تدرك جيداً أن أحداً لن يتجرأ على تعبئة الفراغ الذي يتركه انسحابها من دون التنسيق المباشر معها، وحفظ مصالحها. و"تفنن" الرئيس ترامب باستخدام سلاح العقوبات لترسيخ دور جديد لأميركا وهو قيادة العالم عن بعد "بالريموت كونترول". أليس ذلك ما حدث ويحدث مع روسيا في تركيا وسورية وإيران؟ أليس ذلك ما يحدث مع الصين التي لم تجرؤ حتى إشعار آخر على خرق العقوبات على إيران، مكتفية برسم "أحزمة وطرق" جديدة لطريق الحرير وتوزيع المساعدات والمشاريع على الدول. 

الأمركة وليس العولمة 

أما على صعيد نظرتها للعولمة، فقد تبنت أميركا سياسات ثابتة ومتدرجة أيضاً للإنكفاء عن الشعارات الاقتصادية والتجارية والنقدية للعولمة بمفهومها السائد. وباشر الرئيس ترامب فور دخوله البيت الأبيض تنفيذ "أجندة جاهزة" تحقيقاً للشعار الذي رفعه.. "الأمركة وليس العولمة". وأشعل حروباً مفتوحة مع الخصوم والحلفاء على السواء على جبهتين متلازمتين، الأولى حروب تجارية وإلغاء إتفاقات التجارة، بهدف تغيير قواعد حرية التجارة المعروفة وحماية الأسواق الأميركية من "غزو السلع الأجنبية". والثانية حروب عملات وأسعار فوائد لجذب الاستثمارات ورؤوس الأموال إلى أميركا والقضاء على الميزات النسبية للسلع الأجنبية في منافستها للسلع الأميركية. ولم تبالغ الصين حين وصفت قرارات ترامب بفرض رسوم وضرائب على نحو 34 مليار دولار من الصادرات الصينيّة، مهدداً برفعها إلى 450 ملياراً، بأنها أكبر حرب تجارية في التاريخ، وهي كذلك لأنها سرعان ما اشتعلت على جبهات معظم حلفاء أميركا في أوروبا وكندا والمكسيك وأميركا الجنوبيّة.  

وبدل أن نستعرض الحروب التي خاضها ترامب، سنستعرضها من خلال ما قاله في خطابه الشهير للدلالة على أن تلك الحروب التي تم تنفيذها فعلاً كانت مخططة سلفاً. فقد قال: 

- سنوقف "السرقة الفاضحة" التي تقوم بها الصين لملكيتنا الفكرية وإغراقها غير القانوني لأسواقنا بالمنتجات نتيجة تلاعبها المدمر بالعملة، فهم أفضل متلاعبين بالعملة على الإطلاق.

- سأعيد النظر بكل الإتفاقات التجارية الكارثية مثل اتفاقية الشراكة التجارية عبر المحيط الهادي (TPP) واتفاقية التجارة الحرة لشمال أميركا (النافتا) التي تعتبر إحدى أسوأ الإتفاقات الاقتصادية التي أبرمتها بلادنا. 

- سأقوم بدلاً من ذلك بتوقيع إتفاقات ثنائية مع دول منفردة، وتحويل إتفاقات التجارة السيئة إلى إتفاقات عظيمة.

- سنخفض أسعار الفائدة والضرائب ونسهّل بيئة الاستثمار لتشجيع الشركات على تأسيس الأعمال في مدننا، والإسراع بنقل أنشطتها من البلدان الأخرى إلى أميركا، وبهذه السياسات التي سننفذها "بسرعة جداً، جداً"، ستتدفق تريليونات وتريليونات من الدولارات إلى بلادنا. 

وقد نفّذ الرجل كل ما وعد به، بإستثناء تخفيض أسعار الفائدة التي ظل رئيس الاحتياطي الفيدرالي جيروم باول يعارضه، حتى أجبر على ذلك تحت وطأة "كورونا"، لتصبح الفائدة قريبة من الصفر. 

وبهذا المعنى يصبح الكلام عن أن فيروس كورونا سيؤدي إلى "إنهيار أميركا" وإلى "إنبلاج فجر العصر الصيني" أو انتهاء عصر العولمة، كلاماً متعجلاً وتنقصه الدقة. صحيح أنه زمن التحولات، ولكن لننتظر ونرى إذا إذ كانت أميركا ستتمكن من تجاوز جائحة كورونا بكل تداعياتها الكارثية والمهينة، لبلورة وتنفيذ رؤية جديدة للعولمة والزعامة، فتصبّ في النهاية "عسلاً وزيتاً في خوابي العم ترامب". أم تنجح الصين في توظيف هذه الجائحة لزيادة قوتها وإضعاف أميركا، فتصب في النهاية "حواضر عمران" جديدة على "طريق حرير" الصين نحو الزعامة...