تقرير الإتحاد الأوروبي:
لبنـان وحافـة الهـاويـة

17.07.2019
Twitter icon
Facebook icon
LinkedIn icon
e-mail icon
شارك هذه الصفحة مع آخرين
Print Friendly, PDF & Email
رشيد حسن

«إن غياب رادع حقيقي لإرتكابات في قطاعات خاضعة لنفوذ طائفي والتحويلات الكبيرة لأموال من خزانة الدولة إلى جيوب بعض كبار الموظفين ورؤسائهم وعائلاتهم هي من أهم مشكلات الفساد في لبنان»  

(تقرير مفوضية الشؤون الاقتصادية في الاتحاد الأوروبي حول لبنان)

في تقرير غير مسبوق في صراحته الجافّة، أصدرت مفوضية الشؤون الاقتصادية في الاتحاد الأوروبي تحذيراً بأن لبنان «يقترب من الهاوية» مقدمة عرضاً للتدهور المقبل والمتسارع في مختلف مؤشرات الوضع الاقتصادي والمالي ومبيِّنة الأسباب التي تظهر أن القدرة التقليدية للبنان على التكيّف مع الأوضاع الصعبة استنفذت عناصرها مما قد يدخل البلد وفي وقت قصير في أزمة غير مسبوقة في عمقها ومخاطرها. 

وتعود أهمية التقرير إلى أنه يصدر من مفوضية الشؤون الاقتصادية في الاتحاد الأوروبي، أي من أعلى مستوى رسمي في بروكسل، وقد أعدّت مجموعة من الخبراء الأوروبيين بالتعاون مع المفوضية الأوروبية في لبنان التي تمتلك بدورها حضوراً وازناً في البلد مع سفيرة ونحو 50 موظفاً وفريق من الاقتصاديين الذين يتابعون الوضع عن كثب، ولعبت المفوضية دوراً مهماً في التحضير لمؤتمر «سيدر» في باريس وهي تملك إحاطة واسعة بالملف الاقتصادي والمالي والسياسي اللبناني، مما يعطي للتقرير وزناً خاصاً ويظهر في الوقت نفسه بعض الإشارات على نفاذ صبر الاتحاد الأوروبي وأصدقاء لبنان في أوروبا إزاء التخبط الحكومي اللبناني والفساد (الذي أشار إليه التقرير مرات عديدة) وتأخير برامج الإصلاح في وقت استنفذ فيه لبنان أكثر دفاعاته واحتياطاته التي ساعدته على تأخير الاستحقاقات الداهمة. 

فما الذي جاء به هذا التقرير المهم؟ ولماذا ينبغي على السياسيين في لبنان وعلى القادة الماليين والاقتصاديين قراءته بدقة والاتعاظ بإستنتاجاته؟

يفتتح التقرير بخلاصة مفادها أن الوضع الاقتصادي في لبنان بات مدعاة للقلق الشديد ويقدم للدلالة على ذلك مجموعة من المؤشرات أهمها:

1 - إن معدل النمو الاقتصادي الذي يتراوح حول 1.4 في المئة منذ العام 2011 وانخفض في العام 2018 إلى 0.3 في المئة بعد أن كان في حدود 6.3 في المئة في الفترة ما بين 2003 و2010.

2 - إن شل البلد لمدة تسعة أشهر تقريباً بعد انتخابات مايو 2018 قبل تشكيل حكومة تسوية ضعيفة لم يساهم في إعادة الثقة لأوساط الأعمال.

3 - على رغم إصدار الحكومة وعوداً بتنفيذ برنامج إصلاح مالي جذري فإن الخطوات المقترحة تواجه على العموم مراوحة وتأخيراً في وقت يتوقع أن يقفز الدين العام في العام 2018 إلى نسبة 150 في المئة من الناتج المحلي بينما وصل عجز الحساب الجاري إلى رقم غير مسبوق هو 27 في المئة من الناتج المحلي، وتزداد صعوبة تمويل هذا العجز يومياً مع التباطؤ المستمر في تدفقات الودائع الخارجية بل وتسجيل لبنان لأول مرة في أول شهرين من 2019 تدفقاً سلبياً للودائع إذ فاق حجم الودائع الخارجة حجم الودائع الداخلة إلى الجهاز المصرفي.  

4 - رغم دقة الوضع المالي فإن معضلات بنيوية مثل العجز المزمن في قطاع الكهرباء والفساد الواسع الانتشار مستمرة في استنزاف المالية العامة.

5 - إن غياب معالجات جادة وسريعة للأزمة المالية أدى إلى ازدياد المخاطر السيادية للبلد وخفض متواصل في تصنيفه الإئتماني وقد وضع آخر تصنيف لوكالة «موديز» لبنان في منطقة الدول العالية المخاطر ما يعقّد بصورة إضافية عملية إدارة الدين العام ويرفع تكلفة تمويله.

وحسب التقرير الأوروبي، فحتى الإصلاحات التي التزم بها لبنان في مؤتمر «سيدر» وتناولت خفض العجز المالي بنسبة واحد في المئة من الناتج المحلي سنوياً خلال خمس سنوات، لم تعدّ كافية، وهذا على فرض نجاح الحكومة في تحقيق ذلك الخفض، على العكس من ذلك، فإن عجز الموازنة شهد تدهوراً كبيراً إذ قفز في العام 2018 إلى 10.9 في المئة من الناتج المحلي بعد أن كان 6 في المئة في العام السابق. إضافة إلى أثر الفساد، فإن المالية العامة تشكو من اختلالات كبيرة مثل نظام معاشات التقاعد الموزعة بصورة غير عادلة وهو يعادل 2.5 في المئة من الناتج المحلي بينما يطال فقط 2 في المئة من السكان حسب تقديرات البنك الدولي (2018). 

أمثلة لا تبشّر بالخير

يورد تقرير الاتحاد الأوروبي صورة قاتمة عن حجم الفساد الحكومي والمقاومة الضمنية من طبقة السياسيين المستفيدين من غياب الرقابة لأي خطوات إصلاحية حقيقية تضع حداً للإستنزاف الواسع لموارد الدولة، وهو بالتالي يضع الإصبع على موضع الخطر. 

الفقرات التالية مستقاة حرفياً من التقرير:

1 - نهب المال العام

إن غياب رادع حقيقي للإرتكابات غير القانونية في قطاعات خاضعة لنفوذ طائفي والتحويلات الكبيرة للأموال من خزانة الدولة إلى جيوب بعض كبار الموظفين ورؤسائهم وعائلاتهم هي من أهم مشكلات الفساد في لبنان. في هذا السياق، توصّل البنك الدولي في تحليل تفصيلي للوضع اللبناني أجراه في العام 2016 إلى الإستنتاج بوجود «نخبة سياسية تستتر بأستار طائفية» لنهب المال العام معتبراً أن هذه الظاهرة تمثل إلى جانب العنف الإقليمي المشتعل حول لبنان أهم محددين لأداء الاقتصاد اللبناني. 

خدمات البنوك المراسلة مهددة

إن الدور البارز لحزب الله في الحكومة منذ مطلع العام 2019 يثير مزيداً من القلق حول احتمال أن يؤدي أي تشديد للعقوبات الأميركية على إيران والمنظمات التابعة لها إلى المزيد من التهديد لخدمات البنوك المراسلة الأميركية للجهاز المصرفي اللبناني.

2 - «سيدر»  والإصلاحات المجمّدة

رغم استعداد الاتحاد الأوروبي لدعم الحكومة اللبنانية في توفير الأموال ووضع السياسات القطاعية وجدول الأولويات وتوفير المساعدة الفنية في تصميم المشاريع وتقييم الأثر الاقتصادي لكل مبادرة، لم يحصل تقدم فعلي في نطاق التطبيق بسبب الفراغ الحكومي الذي استمر بعد انتخابات 2018 والتأخير المستمر في تطبيق الإصلاحات الملتزم بها من الحكومة اللبنانية.

3 - قطاع الطاقة وغياب الشفافية

إن خطة إصلاح قطاع الطاقة تتطلب إنشاء معامل جديدة وبنى تحتية قوية واستثمارات كبيرة، لكن مسائل أساسية تتعلق بالإدارة الشفافة للقطاع ما زالت مفقودة لأن الخطة المعتمدة لا تعطي أي دور للهيئة الناظمة المستقلة لقطاع الطاقة أو أي دور مركزي للمجلس الأعلى للتخصيص في أصول استدراج العروض والمناقصات، وكلا الأمرين يشكلان نقضاً للإلتزامات التي وقّعت عليها الحكومة في اتفاق «سيدر».

4 - إدارة الاستثمارات العامة

أجرى صندوق النقد الدولي في منتصف العام 2018، وبطلب من لبنان، تقييماً شاملاً لنظام إدارة الاستثمارات العامة بدءاً من مرحلة التخطيط وحتى اتخاذ القرارات والتنفيذ، وقدّم الصندوق خطة عمل مفصّلة للدولة بهدف تحسين الأداء المالي والتنفيذي في هذا المجال، لكن لبنان خلافاً للأردن لم يقم بنشر محتويات التقرير وتوصياته، إلا أنه وفي جميع الأحول، فإن تنفيذ المشاريع في لبنان سيكون موضع تدقيق مباشر من الأسرة الدولية التي ستصرّ على تطبيق المعايير المقترحة من قبل صندوق النقد. 

5 - تحدي إدارة الدين العام

إن عبء الدين العام قفز إلى 151 في المئة من الناتج المحلي في العام 2018 وبات من أعلى المعدلات في العالم، ويتوقع صندوق النقد الدولي أن يرتفع العبء إلى 180 في المئة العام 2023 وأن يستمر في الارتفاع بعد ذلك، ويعتبر الصندوق أن لبنان لا يمكن أن يتحمل هذا العبء، وربما بتأثير هذا الأفق القاتم (وكصدى لما يدور داخل الوسط الحكومي والسياسي) تحدث وزير المالية اللبنانية علي حسن خليل في يناير الماضي عن خطة حكومية لإعادة هيكلة الدين العام، ورغم النفي السريع الذي صدر فإن مجرد طرح الفكرة رفع بسرعة الفائدة على تأمين مخاطر الدين اللبناني، وساهم إعلان قطر في الاكتتاب بنحو 500 مليون دولار في السندات الحكومية اللبنانية مع إعلان عن دعم مالي سعودي في تهدئة السوق إلا أن هذا الدعم يعدّ «قطرة في بحر» على حدّ تعبير التقرير الأوروبي ويبقي الأزمة الخطرة للوضع المالي الحكومي على حالها. صحيح أن ما يخفف إلحاح الأزمة نسبياً كون 50 في المئة من الدين العام للبنك المركزي والبنوك المحلية لكن هذا الواقع في حدّ ذاته سيزيد من دقة وضع المصارف اللبنانية في الاستحقاقات المقبلة.

نهاية حد الاحتمال

النقطة المهمة التي يبرزها التقرير، هي أن التطورات الأخيرة في الاقتصاد والمالية اللبنانية تحيط الآن بالشك الفرضية السابقة بقدرة لبنان على الاستمرار في امتصاص الأزمات، لأن لبنان تمكّن في السابق من احتمال الضغط المزدوج للدين العام والعجوزات المالية بسبب التدفق المستمر للودائع الخارجية التي تجذبها أسعار الفائدة العالية وقوة الجهاز المصرفي والإدارة الماهرة للوضع النقدي من قبل البنك المركزي، إلا أن التباطؤ الملحوظ في تدفقات الودائع واستمرار المشاحنات السياسية وتفاقم الفساد والاختلالات الهيكلية تعزز الاعتقاد بأن النمط السابق إنتهت صلاحيته وبات أمراً من الماضي.  

سيناريوهات الأزمة المقبلة

يرسم تقرير الاتحاد الأوروبي صورة عن التطورات المحتملة في الوضع المالي اللبناني ويقدّم فرضية أساسية هي أنه من دون إصلاحات هيكلية ملموسة فإن لبنان يغامر بإحتمال مواجهة أزمة مزدوجة تتناول سعر صرف الليرة اللبنانية واحتمال التوقف عن خدمة الدين وكلا الأمرين لا بدّ وأن ينعكسا بهزة كبيرة على الوضع المصرفي. 

- وضع الليرة اللبنانية: يعتبر التقرير أن استقرار سعر صرف الليرة وارتباطها الثابت بالدولار مثلا تقليدياً المرتكز الأهم للثقة بالاقتصاد اللبناني وبالوضع المالي للبلد، لكن الضعف المستمر في الاقتصاد وخصوصاً تفاقم مشكلة العجز المالي والدين العام يجعل الليرة اللبنانية عملياً مقومة بأعلى من قيمتها الحقيقية وهذا سيضغط مع الوقت على احتياطات البنك المركزي وهو بات يضعف تنافسية الصادرات اللبنانية والسياحة والخدمات،  لكن من ناحية أخرى، فإن فك الربط أو تعويم سعر الصرف (رغم الفوائد المباشرة التي قد يحققها على صعيد تنافسية الاقتصاد فإنه سيتسبب بإطلاق ديناميكية تضخم وفي الوقت نفسه انكماش في الإقراض وركود اقتصادي، كما إنه سيرفع تكلفة الدين الخارجي بالعملة اللبنانية ويخلق احتمالاً قوياً بتوقف لبنان عن خدمة الدين مما قد يتسبب بدوره بهزة خطيرة للقطاع المصرفي وربما انهيار عدد من المصارف. 

- حتمية الإصلاحات: على الرغم من الآثار السلبية المحتملة للإجراءات الضريبية والمالية على النمو الاقتصادي فإن تطبيق برنامج شامل لتعزيز المالية العامة سيكون بمثابة إشارة تطمين مهمة من لبنان للمستثمرين ومقدمة للعودة إلى وضع مالي صحيّ، لكن برنامج الخمس سنوات للتثبيت المالي الذي تبناه لبنان في مؤتمر «سيدر» والذي كان كافياً ربما يومها لم يعدّ كافياً الآن بسبب تفاقم العجوزات مما يدعو إلى إجراءات أكثر جذرية تتلاءم مع التدهور المستجد. ومن الخطوات التي يقترحها التقرير:

-  زيادة الضريبة على القيمة المضافة

-  إعادة الرسم على المحروقات 

-  الرفع التدريجي لدعم أسعار الكهرباء

-  احتواء فاتورة الرواتب والأجور في القطاع العام 

واعتبر التقرير أن إلغاء الاستثناءات من الضريبة على القيمة المضافة يمكن وحده أن يحقق نحو 4.1 في المئة من الناتج المحلي، كما إن إغلاق أبواب التهرب من القيمة المضافة يمكن أن  يضيف 3.3 في المئة على الناتج المحلي.

الفرصة الأخيرة

 ويخلص التقرير إلى القول بأن الإصلاحات المطلوبة باتت مبلورة ومصاغة في مشروع الإصلاحات الهيكلية الذي تمّ الاتفاق عليه في مؤتمر «سيدر» في نيسان 2018، لكن بعد أكثر من سنة من ذلك التاريخ لا يزال لبنان يراوح ويؤخر الإصلاحات بينما تنتظر الجهات الداعمة والمانحة خطوات حقيقية من الحكومة اللبنانية تفتح الطريق الموصل إلى تجاوز الهاوية واجتناب الانهيار، واعتبر التقرير أن محك الجدية لدى الحكومة اللبنانية هو إقرار ميزانية إصلاحية تستهدف فعلاً وضع حدّ للهدر وخفض العجز المالي وإعلان خطة شفافة لمعالجة وضع قطاع الطاقة ووضع حدّ للفساد عن طريق تفعيل الإصلاحات المقررة ولاسيما إعادة الصلاحيات كاملة للهيئات الناظمة للقطاعات المختلفة والأجهزة الرقابية.