الولايات المتحدة الأميركية
«الدولة الضرورة» رغم الإنفصام

04.01.2024
الدكتور حسن منيمنة
Twitter icon
Facebook icon
LinkedIn icon
e-mail icon
شارك هذه الصفحة مع آخرين
Print Friendly, PDF & Email

د. حسن منيمنة

الرئيس المقبل للولايات المتحدة، كائناً من كان، سوف يشرف على احتفالات ربع الألفية من حياة هذه الدولة، الأقوى على وجه الأرض، والأقوى في تاريخ البشرية. قليلة هي الدول التي بوسعها أن تفاخر بطول حضور مستمر بهذا القدر، دون انقطاع في نظامها السياسي، وبدستور واحد، وبفصول قليلة من التوتر. بل هي، وفق صورتها الذاتية، البلاد الاستثنائية والدولة الضرورة، صاحبة الإنجاز في العلم والعمل، والتي لا يستقيم شأن في العالم، لا سياسي ولا اقتصادي ولا تقني، إلا ولها في استقامته الدور والتأثير. لماذا إذن يجد الأميركيون أنفسهم، وفق ما تفصح عنه الاستطلاعات تلو الأخرى، بحالة من القلق والتوجس حول مستقبل وطنهم واستقراره ودوام رخائه ونفوذه؟

الغالبية هنا ترى بالفعل أن الولايات المتحدة ليست بخير.

تضخيم هذا الأمر وصولاً إلى التهويل والترويع ليس مبرراً، فالقوة العظمى الأولى ليست على حافة الانهيار والسقوط. ولكن في المقابل فإن التقليل من أهمية ما يستجد فيها، على المستويات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، هو أقرب إلى التهوّر، حيث أن تداعيات ما يجري هنا يطال كافة الدول والمناطق والمجتمعات في العالم أجمع، وغالباً بأشكال وتجليات أكثر حدّة وخطورة منها في الولايات المتحدة نفسها.

هذه الانتخابات الرئيسية المزمع حصولها في تشرين الثاني المقبل يصفها الكثيرون بأنها أهم انتخابات أميركية في التاريخ. المسألة ليست شخص دونالد ترامپ، الرئيس السابق والرجل الخلافي الفظّ بنظر البعض والجريء بنظر آخرين، مع رجحان أن يكون هو المرشح الرئاسي الجمهوري بل ربما حتى الرئيس المقبل. والمسألة ليست كذلك جو بايدن، الباهت المشتت الضعيف بل الفاسد بنظر البعض وأفضل المتوفر بالنسبة لآخرين،  إن تمكن من بلوغ يوم الانتخابات بكامل صحته، ونجح بتخطي ما لصق به من اتهامات بالضعف والتخبط. بل هي بأن  الثقة العامة بسلامة سير الانتخابات وجدواها لم تعد متحققة. أي أن النتيجة، مهما كانت، سوف تلقى من يطعن بها. والطاعن المرتقب ليس عند هوامش الحياة السياسية في البلاد، بل ربما ما يقارب من نصف الناخبين. إما هذا النصف إن فاز دونالد ترامپ (أو المرشح الجمهوري غيره في حال حدث ما لم يكن بالحسبان)، وإما ذاك النصف إن نجح جو بايدن بالاحتفاظ بكرسي الرئاسة. هي حالة من الريبة إزاء النظام والسلطات وإزاء السياسيين مقرونة بتخوف حقيقي على مستقبل الولايات المتحدة بأشكال لم يختبرها هذا المجتمع قط. سلوك دونالد ترامپ خلال عهدته السابقة قد ساهم دون شك بتفاقم الأحوال وبروز الانفصام. غير أنه من التبسيط المجحف افتراض أنه هو السبب.

يمكن تتبع أوجه التأزم الحالية إلى ما اصطلح على تسميته بـ «حروب الثقافة» في تسعينات القرن الماضي، إذ الولايات المتحدة يومئذ، في اطمئنانها لانتصارها في الحرب الباردة وتوسيع نفوذها إلى عقر دار المنظومة الاشتراكية التي كانت عدوّها اللدود على مدى قرابة نصف قرن، بدت عازمة على مراجعة حساباتها الداخلية المؤجلة منذ الستينات، حين تمكنت «حملة الحقوق المدنية» من الدفع لتطبيق «إصلاحات» تعالج الترسّبات التاريخية الراشحة منذ أزمان «الحرب الأهلية» (أو «الحرب بين الولايات») في منتصف القرن التاسع عشر، وقبلها الاستعباد على مدى قرابة ربع الألفية من الزمن.

هي «إصلاحات» من وجهة نظر من نادى بها من التقدميين، ولكنها تطفّل واستغلال لظرف تاريخي انطوى، من وجهة نظر المحافظين. فإن اضطر عديد هؤلاد إلى الإقرار بأن سجّل الولايات المتحدة لم يكن بمطلق النصاعة، فإنهم بما يقارب الإجماع يثابرون على الإصرار بأن مسار المجتمع والدولة كان ولا يزال التدرج والارتقاء نحو الأسمى، دون الحاجة إلى إشهار المظلوميات والمطالبة بالمعاملة الخاصة بحجة ماضٍ سحيق.

التسعينات كانت بالتالي عقد توضيح خطوط التماس بين توجهين متجددين، التقدمي والمحافظ، يبني كل منهما قراءة متميزة للأمس، تتباعد عمّا يراه خصمه، كأساس لتصور مستقبلي للصيغة التي يريدها للولايات المتحدة.

ثم كانت اعتداءات الحادي عشر من أيلول، ومعها الحاجة الطارئة إلى تأجيل المواجهة العقائدية، ثقافياً وسياسياً، والعودة إلى التلاقي الوطني بقدر الإمكان للتصدي لخطر الإرهاب الداهم، وخوض حروب معه، أو مع ما يقوم مقامه في الخطاب والمخيلة هنا. في أفغانستان طبعاً، ولكن في العراق كذلك، ثم على مدى ذاك الفضاء الصحراوي (العربي؟ الإسلامي؟ هل من فارق؟)، وإن دون اتضاح الرؤية والغاية.

استطراد هام في هذا الصدد. الولايات المتحدة، لحظة ولادتها واستقلالها في الربع الأخير من القرن الثامن عشر، اختزلت وانتخبت من الهويات والتوجهات الفكرية الشائعة في أوروپا، فأراد لها «آباؤها المؤسسون» أن تكون قائمة على قيم «الأنوار» (وأدبيات «البنائين الأحرار» ورموزهم)، فيما كان أهلها غارقين متشبعين بهوياتهم المسيحية بأشكال جديدة في لامركزيتها، وفي أصوليتها وصرامة تدينها. أي أنها نشأت «علمانية» (قبل أن يتضح المصطلح) في الفصل بين الدولة والكنيسة ، ولكن على خلاف من علمانية الثورة الفرنسية، رغم زعم الأصول المشتركة، أي دون خصومة على الإطلاق مع اللاهوت والدين، وإن اشتركت معها في العداء للكهنوت، وللكنيسة ولكن حصراً بالمفهوم الجامع قسراً (كما رأى الپروتستانتيون الكنيسة الكاثوليكية حسنها).

ذلك أن أميركا في يفاعتها كانت پروتستانتية إنجيلية، ساء عديد أهلها في القرن التاسع عشر قدوم المهاجرين الكاثوليك، ذوي الولاء المشبوه لبابا روما، فكان لا بد من بذل جهود مضنية لاستيعاب هؤلاء، إيرلنديين وإيطاليين وپولونيين وغيرهم، في الهوية الوطنية، والتي استقرت، مع اقتراب مئوية البلاد، على الهوية المسيحية. ثم كانت الهجرة الوافدة اليهودية، ليعود التشنج الفكري الثقافي الديني الاجتماعي، مدّاً وجزراً، رغم الصعود السريع للاهوت «الأدوارية»، السبّاق في التأسيس للعلاقة العميقة مع إسرائيل في مراحل لاحقة. فكان أن استقرت الهوية الأميركية عند المئوية الثانية، في الربع الأخير من القرن الماضي، على مقولة التراث والقيم «اليهودية-المسيحية». بل ولوهلة في تسعينات القرن المنصرم، بدا وكأن هذا المفهوم قابل للتوسيع ليحضن مكوّناً إسلامياً، مع اتضاح ظاهرة الأفارقة الأميركيين المسلمين، ومع ازدياد الأعداد الوافدة في الجاليات الإسلامية. كما في المراحل الماضية، لم تكن المسألة ترحيباً صرفاً، بل جمعت بعض الترحيب وقدر من النفور والريبة وكم لا يستهان به من العداء. غير أن إمكانية الاحتفال بالخلفية «اليهودية-المسيحية-الإسلامية» كانت قائمة حينها. أي قبل طغيان اعتداءات الحادي عشر من أيلول على المشهد.

منذ مطلع الألفية، وفيما الولايات المتحدة، على المستوى الوطني العام، كانت منشغلة بمواجهة الإرهاب ومشتقاته، استمر كل من التيارين التقدمي والمحافظ، عند المستوى الفئوي الخاص، بتعميق قناعاته وأدبياته وتأصيل قيمه وتوجهاته بعيداً عن التفاعل مع الآخر المختلف، وذلك في سياق معرفي جديد قائم على وسائل التواصل الاجتماعي بما تدفع إليه من تفتيت للفضاء الفكري الوطني المشترك والتقوقع في شرانق ثقافية تسقط ما هو خارجها تسفيهاً وتخويناً. فيوم تحقق لهذين التيارين العودة إلى الفضاء العام، بعد انحسار الخوف من خطر الإرهاب، إذ بالولايات المتحدة تستفيق على انفصام بين رؤيتين متناقضتين إلى حد الانتفاء.

لم يعد واضحاً، بعد النزول عن الهم الوطني المشترك إلى أرضية الصراعات العقائدية، أين تنتهي المقولات الموزونة والمتزنة وأين تتقاطع مع طروحات المؤمرات ، وأين تنزلق إلى الشطح الفكري التهويلي. الجلي الوحيد هو بأن مساحة التلاقي الوطني بين التوجهين المحافظ والتقدمي قد انكمشت، بل قد يقول البعض أنها زالت، واستحالت الولايات المتحدة إلى أوساط متنافرة طاعنة بمن يخالفها.

على أن هذا الطعن، وهنا المفارقة، يكاد أن يكون متطابقاً في أدبيات الطرفين. إذ الآخر إما غبي جاهل غافل، أو شرير حاقد متآمر. لا جديد هنا طبعاً في المقولات الجدلية التسطيحية. هكذا يتعامل كافة الناس مع الآخرين حين يتدحرجون إلى الاختزال والتعسف. المستجد، مع عودة حروب الثقافة هو الاصطفاف الانفصامي.

قبل عقود قليلة، كان للحزب الديمقراطي جناحاً تقدمياً، يلامس الاشتراكية عند أطرافه، ويتواصل مع الحركة النقابية معتمداً على أصواتها ومسانداً لمطالباتها. ولكن كان لهذا الحزب كذلك جناحاً محافظاً ينسجم مع توجهات الحزب في توطيد برامج الرعاية الاجتماعية، مع تمايز عن الدعوات التقدمية فيما يتعلق بالعلاقات العرقية وغيرها. وفي المقابل فإن الحزب الجمهوري كان قائما على التلاقي بين تيارات ذات اهتمامات مختلفة، منها ما يدعو إلى دور فاعل فعّال للولايات المتحدة على الساحة الدولية (المحافظون الجدد)، ومنها ما يرى نقيض ذلك ويشدد على وجوب انعزال الولايات المتحدة، إلا عند الضرورة القصوى (المحافظون القدامى). وكان من الجمهوريين من يدعون إلى تقليص دور الدولة على كافة الصعد، وإتاحة المجال أمام الأوساط الاجتماعية المختلفة لتتصرف كما شاءت (المحافظون الاقتصاديون)، فيما آخرون ضمن الحزب يريدون له وللدولة أن يكونا المدافعين عن القيم العائلية ولا سيما في مواجهة الإجهاض والمثلية (المحافظون الاجتماعيون). أي أن خطوط التماس السياسية والفكرية في الولايات المتحدة كانت تتداخل مع الحزبين، بل نتيجة تعدد القضايا والمسائل، فإن هذه الخطوط كادت أن تشكل نسيجاً من التداخلات، يضمن التماسك الاجتماعي وإن تكاثرت أسباب الاختلاف والخلاف.

أما اليوم، فتشهد الولايات المتحدة انتظاماً خطيراً في خطوط التماس السياسية والفكرية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية، بما قد أسّس بالفعل لحالة انفصام، ولا مجرد انقسام.

لم يكن الموضوع العرقي غائباً يوماً عن الوعي السياسي في الولايات المتحدة (يمكن القول بأن العرقية هي «طائفية» الولايات المتحدة). غير أن حالة الانفصام القائمة اليوم تنقل هذا الموضوع إلى موقع غير مسبوق، سيما وأنه يتزامن مع تقلص الكتلة العرقية «البيضاء» وتوقع خسارتها للأكثرية العددية في الولايات المتحدة بعد عقود قليلة، في جوار منتصف هذا القرن.

فما لا يجري التصريح به، في إطار الواقع السياسي الأميركي المبني على الثنائية الحزبية (جمهوري-ديمقراطي)، ولكنه للتوّ متحقق، هو أن الحزب الجمهوري اليوم هو حزب الأميركيين «البيض»، فيما الحزب الديمقراطي هو حزب الأميركيين «الملوّنين» (أو «غير البيض» من ذوي الأصول غير الأوروپية). قد تخرج الأصوات المعترضة على هذا التوصيف من خلال الإشارة إلى أن الديمقراطيين ليسوا جميعاً من غير البيض بل أبرز وجوههم من البيض (بمن في ذلك الرئيس بايدن)، فيما الجمهوريون يحتضنون في صفوفهم الكثير من غير البيض. فهذا التوصيف الاختزالي قد لا يستقيم بالكامل. ولكنه، بعيداً عن القطعية الإطلاقية، يستقيم بالإجمال. من حيث أن معظم البيض يصوتون لصالح الجمهوريين، ومعظم الجمهوريين هم من البيض، ومعظم غير البيض يصوتون للديمقراطيين، ومعظم الديمقراطيين هم من غير البيض. والتدرج في تركيبة الحزبين، باتجاه المزيد من الاستقطاب الأبيض لدى الجمهوريين، والتحاق غير البيض بالديمقراطيين أمر يتزايد.

هذا يدفع ليس فقط باتجاه تفكيك نسيج التداخل في المواقف والرؤى والاستعاضة عنه بنظرة شمولية، ولكن كذلك باتجاه تغليب السياسة المبنية على الهوية، على السياسة المبنية على الصالح الخاص والعام.

والنتيجة الجلية اليوم هي أن حالة من القلق تنتاب الأوساط الاجتماعية والفكرية في الولايات المتحدة بشأن ديمومة نظامها السياسي، من حيث البنية ومن حيث ثقة المواطن الناخب به. وإذا كان القلق ظاهراً في الولايات المتحدة، فإنه من حق العالم ككل أن يقلق. قد لا تكون الولايات المتحدة الدولة الضرورة التي يتصورها المعتزين بها، ولكنها بالتأكيد، وحتى إشعار آخر، الدولة ذات التأثير الأكثر وطأة، والذي لا يسع لأحد أن يتجاهله.

منذ عقود، للولايات المتحدة برامج توعية سياسية وتدريب حزبي يسعى إلى عقلنة النشاط السياسي في مختلف أقطار العالم الساعية إلى اعتماد النظم التمثيلية التداولية. الواقع الأميركي اليوم يشي بأن الولايات المتحدة نفسها من شأنها أن تستفيد من برامج من هذا النوع، أو أن تعيد النظر بمقاربتها للعلاقة بين السياسة والمقومات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والعرقية والجيلية والعقائدية والتاريخية، دون إغفال العلاقات الدولية، والتي تشكل المتغيرات العاملة بمسار كل دولة، ابتداءاً بذاتها.