زلزال "طوفان الأقصى"
يهزّ الإقتصاد الإسرائيلي

13.12.2023
Twitter icon
Facebook icon
LinkedIn icon
e-mail icon
شارك هذه الصفحة مع آخرين
Print Friendly, PDF & Email

  د. سوليكا علاء الدين         

     حطّمت الحرب دعائم الاقتصاد الإسرائيلي، وفاقت خسائره المباشرة والغير مباشرة كل الأرقام والاحصائيات السلبية التي سجلتها إسرائيل في جميع حروبها السابقة. بعد مرور أكثر من شهرين على بدء عملية "طوفان الأقصى"، يتواصل النزيف الاقتصادي بشكل سريع ومستمر وعلى مختلف القطاعات والمستويات. إذ رفعت وزارة المالية تقديراتها الأخيرة لتكلفة الحرب على قطاع غزّة  من 163 مليار شيكل (44 مليار دولار) إلى 191، مليار شيكل (51 مليار دولار)، وهو ما يمثل نحو 10 في المئة من الناتج المحلي الاجمالي، مُستندةً إلى احتمال استمرار الحرب من 8 إلى 12 شهرا مع اقتصار الأمر على غزة دون مشاركة أي جهة أخرى. ومن المرجح أن تشهد هذه التكلفة مزيداً من الارتفاع مع طول أمد الحرب وتعطّل الأنشطة الاقتصادية.

الشيكل والاقتصاد في انهيار

على وقع تكلفة الحرب الباهظة والهزات الصادمة التي أصابت اقتصاد اسرائيل البالغ 488 مليار دولار ، تهاوى سعر صرف الشيكل إلى أدنى مستوياته أمام الدولار  منذ عام 2012 حيث وصل إلى 4.08 شيكل، ليعود ويبلغ عتبة الـ3.72 شيكل نهاية تشرين الثاني/ نوفمبر. ولم تُفلح كافة الاجراءات الاسعافية التي اتخذها المركزي في إعادته إلى مستوياته السابقة على الرغم من ضخ إسرائيل حزمة دعم بلغت نحو 45 مليار دولار لمساعدة عملتها واقتصادها على الصمود. وفي خطوة هي الأولى في تاريخه، قام البنك المركزي ببيع 8.2 مليار دولار من النقد الأجنبي في تشرين الأول/أكتوبر للدفاع عن الشيكل، مما أدى إلى تراجع الاحتياطي  بقيمة 7.3 مليارات دولار مُسجلاً 191.235 مليار دولار.

وكان المركزي قد أطلق برنامجاً لبيع النقد الأجنبي بقيمة 30 مليار دولار مع بداية الحرب على غزة قبل شهر وذلك  لمنع حدوث تدهور حاد في سعر صرف الشيكل، بالإضافة إلى تعهده بتوفير ما يصل إلى 15 مليار دولار عبر المقايضات، وفقاً لما ذكرته وكالة "بلومبرغ".

من جهته، قام بنك إسرائيل بمراجعة توقعاته للنمو للعامين 2023 و2024، حيث أشار إلى أنّه من المتوقع أن ينخفض نمو الاقتصاد الإسرائيلي  من نسبة  3 في المئة إلى  2.3 في المئة في عام 2023، و2.8 في المئة في عام 2024 نتيجة تداعيات الحرب. يُذكر أنّ المركزي كان قد أبقى على معدلات الفائدة دون تغيير عند مستوى 4.75 في المئة، وذلك بعد إقرار لجنة السياسة النقدية على إبقاء سعر الفائدة دون تغيير، على الرغم من التصعيد الدائر في غزة. بدوره،  أعلن "بنك جي بي جي مورجان"، أن الاقتصاد الإسرائيلي قد ينكمش بنسبة 11 في المئة على أساس سنوي خلال الـ 3 أشهر الأخيرة من عام 2023، وسط تفاقم أوضاع الحرب على غزة  وهو رقم مماثل لما حدث مع الحظر الشامل خلال جائحة كورونا.

تصدّعات سوق العمل

ووسط خسائر بالجملة، أشارت صحيفة "واشنطن بوست" الأمريكية، إلى أن بعض المسؤولين الإسرائيليين يتوقعون استمرار الحرب في غزة 3 أشهر. والحقيقة أن استمرارها أكثر من ذلك من شأنه أن يؤدي إلى انهيار الاقتصاد الإسرائيلي، جراء استدعاء عدد كبير من جنود الاحتياط الذين يكلفون الميزانية الإسرائيلية رواتب شهرية بقيمة 1.3 مليار دولار، إضافة إلى تكبّد سوق العمل في إسرائيل خسائر أسبوعية بقيمة 1.2 مليار دولار بسبب تراجع الإنتاجية نتيجة انسحاب هؤلاء الجنود من الحركة الاقتصادية.

وبحسب صحيفة "يديعوت أحرونوت" فإن فاتورة الحرب التي تشمل الإنفاق على تعبئة جنود الاحتياط والعمليات العسكرية وإعادة بناء المستوطنات ودعم الاقتصاد ومساعدة المواطنين ستصل إلى أكثر من 150 مليار شيكل عام 2024، وذلك بخلاف كلفة الحرب خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة من العام 2023  الجاري.

هذا وأعلنت وزارة المالية الإسرائيلية، عن تسريح نحو 46 ألف عامل إسرائيلي منذ اندلاع الحرب على قطاع غزة في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، إضافة إلى خسارة إسرائيل نحو 950 ألف وظيفة في سوق العمل. ومن المتوقع أن يعود 8.5 في المئة من المجندين إلى العمل مباشرةً بعد توقف الأعمال القتالية.

الأرقام الصادرة عن مكتب الإحصاء المركزي أشارت إلى أن نحو 760 ألف إسرائيلي غائبون عن سوق العمل بسبب الحرب (18 في المئة من قوة العمل)، بمن فيهم أولئك الذين حصلوا على إجازة غير مدفوعة الأجر والذين انخرطوا في الخدمة العسكرية الاحتياطية.

بالإضافة إلى ذلك، أظهرت بيانات "غلوبس"، الموقع المتخصص في الاقتصاد الإسرائيلي، إلى ترك ما يقرب من 20 إلى25 ألف عامل آسيوي وظائفهم، معظمهم يعملون في القطاع الزراعي، في حين غادر البعض منهم إلى بلدانهم الأصلية خوفاً من الحرب.

ومع استمرار حالة عدم اليقين، تأثرت العديد من القطاعات في إسرائيل بنقص العمالة بما في بما في ذلك البناء والتكنولوجيا والزراعة والمنسوجات. وأثار نقص العمالة تحديداً في القطاع التكنولوجي والشركات الناشئة- القوة الدافعة للاقتصاد الاسرائيلي- الكثير من القلق، بحيث شكلا العام الماضي 18 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي (وهو ضعف ما يشكله القطاع من الناتج في الولايات المتحدة الأميركية) و50 في المئة من قيمة الصادرات. وفي استطلاع تم إجراءه في نهاية تشرين الأول/أكتوبر بين 500 شركة في القطاع، أفاد 70 في المئة منها أفاد 70 في المئة منها أنها تواجه انقطاعات في عملياتها بسبب الخدمة الزائدة عن الحاجة أو بسبب إلغاء أو تأجيل طلبيات ومشاريع مهمّة منذ بداية الحرب.

كما أعلنت العديد من شركات البناء والبنية التحتية تعليق أعمالها بسبب الحرب، بعد تسجيلها صفر دخل. وقد دخل القطاع العقاري الاسرائيلي الذي يُشكل 6 في المئة من إيرادات الموازنة مرحلة حرجة حيث واجه العديد من رواد الأعمال ارتفاع أسعار الفائدة. كما تراجعت أسهم القطاع في البورصة الإسرائيلية بأكثر من 8 في المئة مع نهاية نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي مقارنة بمستويات ما قبل الحرب. هذا وأشارت توقعات شركة "دي آند بي"، إلى إمكانية دخول آلاف المقاولين في حالة فشلمالي في عام 2023. وفي ظل استمرار الحرب، أُغلقت مواقع البناء أبوابها لفترة طويلة، حيث تمّ إلغاء تصاريح العمل ومُنع العمال الفلسطينيون من الوصول إليها، وغادر البلاد نحو 4 آلاف عامل أجنبي.  

ميزانية عاجزة

انعكاسات الحرب طالت أيضاً الميزانية العامة في إسرائيل، إذ قفز العجز خلال أكتوبر/تشرين الأول الماضي، بنسبة 397 في المئة على أساس شهري، بفعل النمو في النفقات الناتجة عن تمويل الحرب في غزة. وفي بيان صادر عن وزارة المالية الإسرائيلية، بلغ العجز المالي في تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، 22.9 مليار شيكل (أي نحو 6 مليارات دولار)، صعوداً من 4.6 مليارات شيكل (1.18 مليار دولار) في أيلول/ سبتمبر. وكان العجز قد سجّل في تشرين الأول/ أكتوبر من عام 2022 نحو 3.1 مليار دولار.

وأضافت أن قيمة العجز في الاثني عشر شهراً الماضية المنتهية في تشرين الأول/ أكتوبر ، ارتفعت إلى 47.2 مليار شيكل (12.1 مليار دولار)، أي بنسبة 2.6 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، صعوداً من 1.5 في المئة بنهاية أيلول/ سبتمبر.  كما أعلنت الوزارة عن تراجع الإيرادات بنسبة 15.2 في المئة، الشهر الماضي، بسبب التأجيلات الضريبية، وانخفاض دخل الضمان الاجتماعي نتيجة الحرب الدائرة منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر.

صحيفة "غلوبس" الاسرائيلية أشارت إلى أنّ ميزانية وزارة المالية لا تتضمّن جميع بنود الإنفاق الحكومي الرئيسي مثل دفع رواتب جنود الاحتياط في الجيش، وإجلاء نحو 90 ألف شخص، بالإضافة إلى الخسائر الجسيمة المسجلة جراء توقف القطاع الزراعي وتراجع أداء القطاع الصناعي والتوقف الكامل لقطاعات اقتصادية رئيسية مثل السياحة والنقل والبناء والتشييد والتي تمثل نحو 20 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، مما يعني أنّ قيمة العجز في ميزانية أكتوبر الماضي، تتجاوز الرقم المعلن عنه في حال إضافة جميع النفقات الناتجة من الحرب على غزة. وكانت وزارة المالية الإسرائيلية قد أعلنت أن الإنفاق الحكومي المتعلق بالحرب بلغ 5 مليارات شيكل في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، في حين تمّ تقدير الانخفاض في الإيرادات بنحو 3 مليارات شيكل.

بدورها، ذكرت صحيفة "كالكاليست" الاقتصادية الإسرائيلية إلى أن نصف التكلفة تذهب إلى نفقات الدفاع التي تصل إلى نحو مليار شيكل يومياً، في حين ستتراوح تكلفة الخسائر في الإيرادات بين 40 و60 مليار شيكل أخرى، إلى جانب ما بين 17 و20 مليار شيكل سوف تتكبدها إسرائيل على شكل تعويضات للشركات و10 إلى 20 مليار شيكل لإعادة التأهيل.

 وقد تسببت الحرب في تعطيل آلاف الشركات، وإرهاق المالية العامة، وإغراق قطاعات بأكملها في أزمة ، كذلك أدّت إلى خلق حالة من التوتر بالأسواق  كما أثرت على مختلف خطط التنمية في البلاد، وسط مطالبة مئات الاقتصاديين الإسرائيليين باتخاذ إجراءات تقشفية.

أمّا ميزانية العام 2024 ، فمن المرجّح أن تكون الأعلى في تاريخ إسرائيل، بأكثر من 600 مليار شيكل (حوالي 160.8 مليار دولار)، يجري التخطيط لتعديلها حيث أظهرت التوقعات تسجيل عجز بنحو 115 مليار شيكل (نحو 29 مليار دولار). وذلك في وقت من المتوقع أن تنخفض الإيرادات الضريبية بأكثر من 10 في المئة، بسبب الشلل الذي يصيب الكثير من القطاعات الإنتاجية والخدمية جراء تجنيد مئات الآلاف من جنود الاحتياط، وتوقف الإنتاج في المناطق الواقعة قرب قطاع غزة والحدود اللبنانية الشمالية فضلاً عن تراجع الاستهلاك بشكل كبير، وارتفاع البطالة التي تقلص عائدات ضريبة الدخل. وقد اشارت الإحصائيات إلى أن 20 في المئة من القوى العاملة في "إسرائيل" أصبحت عاطلة عن العمل، أي  ما يعادل مليون عامل.

وكانت ميزانية العام 2024 قد قّدّرت بنحو 514 مليار شيكل عند إقرارها في مايو/أيار الماضي، بينما بلغت ميزانية العام الجاري 484 مليار شيكل. وأصبحت الحرب على غزة أكثر تكلفة بالنسبة إلى إسرائيل مما كان متوقعاً في البداية، حيث يزداد تأثيرها سلباً على الأنشطة الاقتصادية المختلفة والمالية العامة، ويقدر وزير المالية الاسرائيلية النفقات اليومية بنحو مليار شيكل (260 مليون دولار). ومن المتوقع أيضاً، أن تبلغ نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي في عام 2023 حوالي 63 في المئة و66 في المئة في العام 2024.

موجات تصنيف منخفضة

لم تتردد الوكالات الدولية في تخفيض تصنيف إسرائيل الائتماني. وفي هذا السياق، قالت وكالة "موديز" للتصنيف الائتماني، إن الحرب في غزة من شأنها أن ترفع التضخم في إسرائيل إلى 6.8 في المئة في العام 2024. وتوقعت وكالة التصنيف أن يتسع العجز المالي في إسرائيل إلى 3.5 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي بحلول نهاية عام 2023، وإلى 7.8 في المئة في عام 2024، وأن يبلغ الناتج المحلي في 2024 نحو 1.4 في المئة.

من جهتها، وضعت وكالة "فيتش" للتصنيف الائتماني إسرائيل تحت المراقبة السلبية بسبب التغير في تصور المخاطر الجيوسياسية، إذ وضعت الوكالة التصنيف الائتماني لإسرائيل عند "A+" تحت المراقبة السلبية، ما يعني احتمال خفض التصنيف.

وفي منتصف تشرين الثاني/ نوفمبر، خفضت وكالة التصنيف الائتماني "ستاندرد آند بورز" توقعاتها لنمو لإسرائيل من "مستقر" إلى "سلبي"، بسبب تداعيات الحرب على قطاع غزة، إذ توقعت أن ينمو الاقتصاد الإسرائيلي بنسبة 0.5 في المئة فقط خلال العام المقبل، مقارنة بـ 2.8 في المئة في توقعات سابقة . وأشارت الوكالة إلى أنها قد تعيد النظرة المستقبلية الائتمانية لإسرائيل من سلبية إلى مستقرة، إذا تم حلّ الصراع، وسط تراجع الأمن الإقليمي والمخاطر الداخلية. وتوقعت انكماش الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 5 في المئة في الربع الرابع من العام 2023، مقارنة بالربع الثالث، مع تراجع جميع مكونات الإنفاق، بما في ذلك الطلب المحلي والصادرات والواردات.

وهن الاقتصاد الاسرائيلي

يعترف الإسرائيليون بأن السابع من تشرين الأول/أكتوبر هو أسوأ يوم في تاريخ إسرائيل العسكري الحديث، لكن الحرب على غزة أظهرت أيضاً أن حجم الأزمة لا يقتصر على فشل أمني أو استخباراتي، بل يمتد إلى عمق الاقتصاد الإسرائيلي، الذي أثبت ضعفه وأثار الكثير من الشكوك حول مدى قدرته على الصمود والتحمّل.

وبعد أن كان الاقتصاد الإسرائيلي من أقوى اقتصاديات العالم وأكثرها ازدهاراً، فإنه ينهار اليوم أمام ضربات طوفان الأقصى الموجعة. وفي عام 2022، ارتفع الناتج المحلي الإجمالي لإسرائيل بنسبة 6.5 في المئة، متجاوزاً توقعات بنك إسرائيل ووزارة المالية البالغة 6.3 في المئة. ومع دخول الحرب على قطاع غزة شهرها الثالث، خفضت دائرة الأبحاث في البنك المركزي توقعاتها لنمو الناتج المحلي الإجمالي إلى 2 في المئة في عامي 2023 و2024؛ في انعكاس واضح للخسائر الهائلة والتشوهات التي اجتاحت هيكل الاقتصاد الذي ما يزال يدفع التكلفة الأعلى والأقسى.