جحيم غزة
سيعيد لفلسطين مكانتها

25.10.2023
Twitter icon
Facebook icon
LinkedIn icon
e-mail icon
شارك هذه الصفحة مع آخرين
Print Friendly, PDF & Email

سيمضي وقت طويل قبل اتضاح الصورة الكاملة للحرب الاستثنائية التي لاتزال جارية على ارض قطاع غزة والتي سيكون لها تداعيات كبرى على القضية الفلسطينية ورسم مستقبل المنطقة في ظل التنافس الإقليمي والدولي الحاد على النفوذ قبل تشكيل نظام عالمي جديد يستتبعه تشكيل نظام إقليمي مواز.   

لقد اظهر "طوفان الأقصى" يوم 7 أكتوبر/ تشرين الاول مالم يكن في الحسبان، اذ مثّل الهجوم المفاجئ والاختراق المباغت ل"كتائب القسام" الذراع العسكري لحركة "حماس" على مناطق غلاف غزة وأسر وقتل إسرائيليين ورشق تل أبيب بوابل من الصواريخ مفاجأة استراتيجية وتحولًّا جوهريًّا على صعيد العمل العسكري لفصائل المقاومة الفلسطينية، وكشف في المقابل عن عجز استخباري إسرائيلي واضح. فقد نجحت عملية "حماس" في كشف عوامل القصور والضعف في بنية إسرائيل بتهشيم الواجهة الهشة التي كانت تعتمد عليها، وبفعل الصدمة العسكرية وتفاقم المشاكل الداخلية ونزيف الهجرة العكسية  بدا وكأن إسرائيل تذهب إلى الفراغ، هذا الامر دفع بالغرب عموما وبالولايات المتحدة خصوصاً الى العمل على منع الانهيار الإسرائيلي وتعبئة الفراع بالدخول المباشر على خط الحرب وادارتها مباشرة وتوفير كل الدعم السياسي والديبلوماسي والمادي والإعلامي والعسكري لحكومة نتنياهو المنهارة ، فحضر الرئيس جو بايدن الى إسرائيل في زيارة لا سابق لها ، وقال كلمته الشهيرة "اذا لم يكن هناك إسرائيل علينا ان ان نبني إسرائيل" ، بما معناه ان مكانة إسرائيل لدى اميركا تفوق مكانة أي دولة أخرى، وان هذا الكيان هو ولاية أميركية متقدمة تتمتع بامتيازات خاصة نظرا الى الوظيفة التي تؤديها خدمة للسياسات لأميركية والغربية. الم يكتف بايدن بالحضور المعنوي بل شارك في اجتماع كابينتها الحكومية وكانه رئيسها الفعلي ، بينما تولى وزيردفاعه لويد اوستن وقادته العسكريين الاشراف المباشر على التحضيرات الميدانية لاجتياح القطاع وارسال رسائل التهديد الى "حزب الله "وايران بعدم مساندة الفلسطينيين ودخول الحرب عبر ارسال المدمرات الحربية الى البحر المتوسط والخليج. فيما كان وزير خارجيته انطوني بلينكن يدير الديبلواسية الإسرائيلية الديبلوماسية ويعمل على توفير الدعم العربي لاجتياح غزة، الامر الذي فشل فيه لاسيما في مصر والسعودية والأردن ، الدول العربية الثلاث التي رفضت رفضا قاطعا اي ترانسفير جديد ونكبة فلسطينية أخرى واصرت على حل سياسي للقضية الفلسطينية يرضي الفلسطينيين.

الحسم فى غزة قد يبدو سهلا نظريا على الولايات المتحدة لتأكيد قيادتها في جغرافية شديدة التعقيد وتتغير كل يوم ويتغير معها العالم، والرمال المتحركة في الشرق الأوسط ، قد تغرق أي رهانات على مثل هذا الحسم. التدخل البري الإسرائيلى باهظ الكلفة، يكفي مكمن فلسطيني واحد ناجح لوحدة عسكرية إسرائيلية متقدمة في احد ازقة غزة لقلب المشهد العسكري برمته في القطاع كما حدث في حرب تموز 2006 في لبنان. المقاومة لايزال لديها بنك أهداف غير معلن حفاظا على عنصر المفاجأة، ومازالت المعركة لم تشتعل بعد في الضفة، وسيكون العقاب الجماعي لأهالي غزة، هو المحفز لاتساع بنك أهداف المقاومة بل واتساع ساحتها. في القطاع يصعب توقع ما قد يحدث غدا. كذلك في العالم العربي الغاضب، حيث التظاهرات والاحتجاجات الشعبية تتصاعد في العواصم والمدن، وسيناريو التهجير القسري من غزة إلى سيناء، ومن الضفة الغربية إلى الضفة الأخرى في الأردن، مرفوض رسميا من الحكام قبل ان يكون مرفوضا شعبيا حتى يكاد أن يكون دعوة الى حرب إقليمية واسعة تفتح جبهات جديدة وتشارك فيها دول ومنظمات مسلحة عدة. مشكلة السياسة الأميركية انسداد أي أفق سياسي وغياب أية نظرة تتجاوز القوة المجردة والدعم المطلق للحليف الإسرائيلي. الوقائع على الأرض لا ترجح أي انفراج سياسي قريب. لندن وباريس قلقتان على امنهما الداخلي والاوروبيون يتحسبون للتداعيات والنتائج. في المقابل اغتنمت كلا من روسيا والصين المعركة لتعودا ولو بشكل خجول الى المسرح الشرق اوسطي، عبر طرح تصور سياسي مبني على أساس القرارات الدولية . صحيح ان تأثير هذا الثنائي محدود لكنهما منخرطان بشدة في صراع دولي محموم على نظام عالمي جديد بدأ بتغيير العالم.

يمكن القول إن التطورات المقبلة سوف تتوقف إلى حد كبير على حدود الإدراك الأميركي للرسائل الواضحة التي حملتها تلك المعركة بالنسبة لإسرائيل، والتي تتلخص في كون وجود وبقاء إسرائيل والأمن الإقليمي برمته بات رهن التوصل لحل عادل للقضية الفلسطينية وأن ذلك هو الأفضل بالنسبة لإسرائيل نفسها ، وأن الحرب الدينية التي شنها اليمين المتطرف ضد الشعب الفلسطيني كانت الحافز لتلك المعركة، وربما تؤدي المعالجة غير المدروسة لتلك المعركة من جانب إسرائيل إلى إشعال حرب دينية في المنطقة تقلب خرائطها راسا على عقب، وسيكون الخاسر الرئيسي فيها إسرائيل. وعليه من غير المستبعد بعد الحرب أن تعجل واشنطن والدول الأوروبية بإعطاء الأولوية لفرض حل الدولتين على إسرائيل، لاسيما وأن الحصار وتجربة الحروب المتكررة على غزة، أثبتت فشل تكتيك "كي الوعي" لأهالي القطاع، بل زادهم صمودًا وتمسكًا بأراضيهم. بل وكان دافعاً لدى المقاومة نحو تلك المعركة. وهنا يأتي دور الفلسطينيين من أجل التفاوض من موقع القوة لتدشين دولة فلسطينية كاملة السيادة، وليس طلب بعض المساعدات والتسهيلات الاقتصادية.

وعلى صعيد اتفاقات أبراهام، يبدو أن تلك المعركة ساهمت في تركيز الأنظار على القضية الفلسطينية، بعد أن تراجعت لصالح التطبيع مع إسرائيل. كما عرقلت مساعي واشنطن لإبرام اتفاق تطبيع بين إسرائيل والسعودية. كذلك، هزت صورة إسرائيل بأنها غير قادرة على حماية أمنها، وتحصين جبهتها الداخلية. ويعد ذلك التقدير بمثابة حافز لإسرائيل نحو الانتقام من غزة وحماس. وتاليا فإن ما يهم إسرائيل في اللحظة الراهنة هو كيفية إعادة "الردع" المفقود واستعادة صورة "النصر" حتى وإن كلّفها ذلك كثيراً، كما يحدث الآن من إحكام الحصار الشامل وحرمان غزة من كافة مقومات الحياة الضرورية. وفي الوقت نفسه طرح سردية كاذبة عن المقاومة وتصدير نفسها كضحية.

ومع ذلك، فإن مشاهد القتل في القطاع سوف تعري سريعًا أكاذيب إسرائيل وتكشف الحقيقة؛ لذلك من غير المستبعد أن تصبح أبراهام نفسها دافعًا لإسرائيل نحو إجراء مراجعات لخفض سقف التصعيد والانتقام، وذلك بدعم أميركي حفاظًا على صورتها أمام الدول العربية، وخشية أن يتحول الرأي العام العالمي صوب دعم غزة، وتجريم إسرائيل مثلما حدث في معركة سيف القدس عام 2021.  في النهاية لا يمكن لأية سياسة أميركية، أو غير أميركية، إنكار عدالة القضية الفلسطينية وحق شعبها في تقرير مصيره بنفسه. فكيف والعالم يتغير كل يوم وأميركا لم تعد وحدها من يقرر مستقبله.

الاقتصاد والأعمال