الازمة الاوكرانية بين الدبلوماسية والحرب
واوروبا رهينة الغاز الروسي

21.02.2022
د. وليد صافي
Twitter icon
Facebook icon
LinkedIn icon
e-mail icon
شارك هذه الصفحة مع آخرين
Print Friendly, PDF & Email

د. وليد صافي*

مضى اكثر من شهرين على تصاعد التوترات الجيوسياسية بين الولايات المتحدة الاميركية واوروبا من جهة وروسيا من جهة اخرى ، وذلك على خلفية اتهام الاخيرة بالاستعداد لاحتلال أوكرانيا، بعد ان نشرت اكثر من مئة الف جندي روسي على الحدود الاوكرانية ، وارسلت مقاتلات حربية وقوات مدرعة وأسلحة نووية الى بيلاروسيا المجاورة لاوكرانيا وبولندا على خلفية التوترات القائمة . اتهمت اجهزة الاستخبارات الاميركية الرئيس الروسي بوتين بالتحضير لذرائع تمكّنه من تحريك قواته باتجاه اوكرانيا ، ونشرت الحكومة البريطانية معلومات عن تحضيرات روسيا للاطاحة بالرئيس الحالي والإتيان برئيس موالٍ لموسكو . في المقابل ، تتهم موسكو الولايات المتحدة الاميركية وحلف الناتو بالتوسع شرقاً ، الامر الذي يهدد الامن القومي الروسي، وترى أن السيناريو الوحيد لتحرّك القوات الروسية باتجاه الاراضي الاوكرانية  هو إقدام القوات الاوكرانية على احتلال دونباس وإنهاء التمرد فيها المدعوم روسياً . نفى المسؤولون الاوكرانيون هذه الاتهامات لعلمهم أن هذا السيناريو، يشكل الذريعة التي ينتظرها بوتين لسحق اوكرانيا واحتلالها، إذ تتوقع جهات غربية أن القوة البحرية الروسية في البحر الاسود، قادرة على تدمير الاسطول الاوكراني وإغراقه خلال ساعات.

النزاع يتخطى اوكرانيا

وسط هذا التوتر الجيوسياسي غير المسبوق، يجري السباق بين الدبلوماسية والتحضيرات الميدانية للمواجهة، مع استبعاد سيناريو وقوع حرب شاملة من الاطراف كافة، ولاسيما الأوروبيين منهم، الذين يخشون من سيناريو يطيح بـكثر من سبعين عاماً من السلام في اوروبا . الأميركيون وحلف شمالي الاطلسي يتهيبون المواجهة المباشرة لاسباب متعددة، وقد أعلنوا مراراً انهم ليسوا بوارد إرسال قوات اميركية مقاتلة الى اوكرانيا، ويراهنون على المساعدات العسكرية التي ارسلت الى الجيش الاوكراني، وذلك لجعل الهجوم الروسي اذا حصل مكلفاً لـ بوتين .

وفي اطار التحضير للمواجهة غير المباشرة ، سمحت ادارة بايدن لدول البلطيق بتزويد اوكرانيا بأسلحة أميركية خصوصاً صواريخ ارض- جو من نوع (FIM-92 Stinger) ، التي تعيد للروس إحياء ذكريات مؤلمة متعلقة بالخسائر التي مني بها سلاح الجو السوفياتي في افغانستان، حين زودت الولايات المتحدة الاميركية "المجاهدين"  الافغان بهذا النوع من السلاح. وعلى طاولة الرئيس الاميركي ايضاً، خيارات اخرى لردع بوتين من مهاجمة اوكرانيا، وتتعلق بحزمة عقوبات اقتصادية تشمل مسؤولين في النظام وبوتين على رأس القائمة، بالاضافة إلى خيار ارسال نحو ثمانية آلاف جندي اميركي لتعزيز قوات حلف شمالي الاطلسي في دول اوروبا الشرقية.

إن حجم المطالب والسقوف العالية التي يتمترس خلفها الاميركيون والروس، تتعدى الازمة الاوكرانية ومطالب اقليم دونباس الشرقي الناطق بالروسية والذي يسعى الى الحكم الذاتي، بل تتعلق بالنسبة الى موسكو بإستراتيجية الامن الاوروبي وتمدد حلف شمالي الاطلسي الى المجال الحيوي الروسي، وبالنسبة الى واشنطن ترتبط بالدور الذي تلعبه روسيا في مواجهة الولايات المتحدة الاميركية في أكثر من قضية دولية واقليمية، وفي الهجمات السيبرانية التي تعرضت لها المؤسسات الاميركية والتدخل في الانتخابات الرئاسية، وتعظيم الاهمية الجيوسياسية لصادرات الغاز الروسي الى اوروبا. وفي هذا المجال، تتهم ادارة بايدن ومعها الاتحاد الاوروبي وبريطانيا، بوتين بأنه يقف وراء تقليص امدادات اوروبا من الغاز التي تسببت بإرتفاع اسعار الكهرباء، والمزيد من التضخم وإفلاس عدد من الشركات، وذلك لإرغامهم على الاعتراف بنفوذه في المجال الحيوي للاتحاد السوفياتي السابق، وتراجع حلف شمالي الاطلسي عن التمدد باتجاه منطقة النفوذ هذه، ولاسيما في بولندا وجورجيا وأوكرانيا. رئيس وكالة الطاقة الدولية، إتهم ايضاً روسيا "بخنق" إمدادات الغاز إلى أوروبا التي تراجعت بنسبة 25 في المئة، والتي تتزامن برأيه" مع التوترات الجيوسياسية المتزايدة بشأن أوكرانيا، "الامر الذي خلق أزمة طاقة لتحقيق أهداف سياسية". مفوضية الطاقة في الاتحاد الاوروبي كادري سيمسون حمّلت من جهتها "التوترات الجيوسياسية مسؤولية ارتفاع أسعار الطاقة ونقص الإمدادات". ويحمّل القادة الاوروبيون روسيا مسؤولية التأثير في الإمدادات، بهدف الضغط على الموقف الأوروبي المؤيد لسياسة الحكومة الاوكرانية، ورداً على قرار الحكومة الالمانية تجميد الموافقات لبدء تشغيل مشروع "نورد ستريم 2". 

اختلافات أوروبية وأميركية

وسط هذه التوترات والضغوط التي يمارسها بوتين ، من خلال الحشود العسكرية على الحدود الاوكرانية الروسية وفي بيلاروسيا وكذلك في استخدام الغاز كسلاح سياسي، نجح الاميركيون وحلف شمالي الاطلسي والاتحاد الاوروبي حتى الآن، بعدم منح بوتين حق الفيتو على القرارات السيادية لبلدان اوروبا الشرقية، وامتنعوا عن الالتزام بعدم تمدد حلف شمالي الاطلسي نحو الشرق . لكن التوصل الى موقف اوروبي - اميركي موحد من القضايا الاخرى ذات الصلة ، يبدو متأرجحاً على التباين الاوروبي - الاوروبي والاميركي - الاوروبي في قراءة الازمة الناشئة، وكيفية التعامل مع نطاق العقوبات المطروح في حال غزو اوكرانيا . الحماس الذي تبديه دول اوروبا الشرقية لتصعيد المواجهة ، لا يلقى الصدى الكبير لدى القوتين الرئيسيتين في اوروبا وهما المانيا وفرنسا، ونقطة الضعف في الموقف الاوروبي كانت وما زالت  في عدم القدرة على صياغة سياسة خارجية دفاعية موحدة ، وهذا ما يراهن عليه بوتين بإستمرار ويشجعه على المضي في خططه وتهديداته. عبّرت صحيفة the Gardien  في اواخر العام الفائت بدقة عن واقع اوروبا ، "إذ تساءلت عن احتمال دخول أوروبا عصراً جديداً خطيراً من عدم الاستقرار، وقالت إنه "منذ أوجّ الحرب الباردة مع الاتحاد السوفياتي، لم تظهر اوروبا معارضة بشدة للقوى المعادية كما هي الآن، فتراكم التهديدات الخارجية والانقسامات الداخلية، إلى جانب ضعف التحالف الأمني الاوروبي- الأميركي، و"التخريب الروسي"  الذي لا هوادة فيه، وحرب الصين "المتعطشة للسلطة" على القيم الغربية، تتكشف نقاط الضعف في الاستراتيجية الاساسية"، وقالت ايضاً "إن اوروبا تشبه بشكل متزايد جزيرة ديمقراطية محاصرة في عالم فوضوي، حيث يهدد المد المتصاعد من الاستبداد والإفلات من العقاب وانتهاك القواعد الدولية، بإغراقها".

تظهر التناقضات الاوروبية بشكل واضح في موقف المانيا، الركيزة الاقتصادية الاولى في اوروبا، التي علّقت من حيث المبدأ الموافقة على تشغيل خط "نورد ستريم ٢"،  ولكنها تطالب في السر بإعفاء واردات الغاز الروسي عبر هذا الخط من العقوبات المفترضة اذا ما أقدمت روسيا على احتلال اوكرانيا ، لما يقدمه هذا الخط من مزايا جيوسياسية لها  ومنافع للاستمرار في تفوقها الاقتصادي في اوروبا وتعزيز المنافسة للاقتصاد الالماني . ويلتقي الموقف الالماني مع الموقف الفرنسي والذي عبّر عنه الرئيس ماكرون في غير مناسبة ، حول ان تأخذ اوروبا بيدها صياغة امنها الاستراتيجي من خلال الحوار مع روسيا ، لأن كلا الطرفين وكذلك المفوضية الاوروبية ، يخشيان يالطا جديدة على حساب اوروبا، وهم الذين يخافون من البراغماتية الاميركية ، وإمكانية المساومة مع بوتين وتوقيع ملاحق سرية على حساب الاوروبين ، على غرار ما جرى في ازمة الصواريخ الكوبية العام 1962، حيث يقال إن الولايات المتحدة قد سحبت الصواريخ من تركيا في ذلك الوقت ، مقابل موافقة خروتشيف على سحب الصواريخ من كوبا. من هنا كان الموقف الفرنسي والالماني متمايزاً عن موقف الولايات المتحدة الاميركية والدول الاخرى بعدم ارسال اسلحة الى اوكرانيا، علماً ان تعزيزات من البحرية الفرنسية قد ارسلت الى البحر الأسود، كما اعلنت فرنسا عن استعدادها لإرسال تعزيزات اخرى الى بعض بلدان اوروبا الشرقية التي تتواجد فيها قوات من حلف شمالي الاطلسي . وعلى العكس من الموقفين الفرنسي والالماني، فإن بريطاينا التي خرجت من الاتحاد الاوروبي وتجتاز حكومة جونسون ازمة ثقة مع اوروبا ، تتماهى مع الموقف الاميركي بإرسال شحنات الاسلحة الدفاعية الى اوكرانيا، و فرض العقوبات على واردات الغاز عبر "نورد ستريم ٢".  وتوافق بريطانيا بالطبع على فصل روسيا عن نظام المدفوعات الدولي Swift ، وتقييد تصدير الرقائق الالكترونية،  وتلتقي حكومة المملكة المتحدة ايضاً مع الموقف الاميركي في موضوع إمدادات الغاز الروسي الى اوروبا ، اذ طالبت وزيرة الخارجية ليز تروس، الدول الأوروبية بخفض الاعتماد الإستراتيجي على الغاز الروسي في تلبية 40 في المئة من احتياجاته من الغاز، ودعت الى "إنهاء هذا الاعتماد الإستراتيجي، سواء كان ذلك في توفير الطاقة أو الاستثمار،  واعتبرت " أن على الدول الأوروبية توفير بديل،.كما حثت حلفاء الناتو على قطع خط أنابيب الغاز الروسي "نورد ستريم ٢"  محذّرة من أن موسكو ستستغل الفرصة إذا أصبحت الدول الأوروبية تعتمد عليها في الحصول على المزيد من الإمدادات. اذاً، لعب بوتين إحدى  أوراقه الاستراتيجية ودخل الغاز الروسي عاملاً في التوترات الجيوسياسية القائمة، فكيف ستتعامل ادارة بايدن والاتحاد الاوروبي مع مخاطر استخدام الغاز كسلاح سياسي ؟

هل من بدائل عن الغاز الروسي؟

ذكرت مجلة فورن افيرز "ان الجغرافيا السياسية للنفط والغاز ما زالت حية وبصحة جيدة ومحفوفة بالمخاطر أكثر من أي وقت مضى، ومن المرجح أن تنتج مرحلة الانتقال الى الطاقة النظيفة  أشكالاً جديدة من المنافسة والمواجهة قبل وقت طويل من تشكيل جيوسياسية جديدة أكثر تضافراً، والاعتماد على الموردين المهيمنين للوقود الأحفوري مثل روسيا والمملكة العربية السعودية  سيرتفع على الأرجح قبل سقوطه، وأهمية موسكو لأمن الطاقة في أوروبا سترتفع ايضاً قبل أن تتراجع". وفي مقال لمجلة الاقتصاد والاعمال بعنوان "الغاز والنفوذ في المشهد الجيوسياسي الجديد "، ذكرت أن الغاز في القرن الواحد والعشرين، يتصدر المشهد الجيوسياسي الجديد في لعبة امتلاك النفوذ، وستكون الرهانات على إمداد اوروبا بالغاز من الحقول الروسية ، احدى ساحات المواجهة الاميركية الروسية. لعبة التأثير بممرات الغاز الى اوروبا ، وايجاد بدائل عن الغاز الروسي تحتلان موقعاً أساسياً في السياسة الخارجية الاميركية ، للحدّ من صعود روسيا وتقليص اعتماد الاسواق الاوروبية على الغاز الروسي الذي يمر عبر شبكات بيلاروسيا - اوكرانيا الى اوروبا الشرقية، وعبر بحر البلطيق الى المانيا بواسطة غاز بروم الروسية . تهدف هذه السياسة في الظاهر الى تخفيف تبعية الاقتصاد الاوروبي للغاز الروسي لما لذلك من تأثير على استقلالية السياسات الاوروبية ، ولكنها في الواقع تعزز المطرقة الاميركية التي تمسك بالاساس بمفاصل الدفاع عن اوروبا، وتؤدي الى تحجيم دور روسيا وتقليص مواردها من قطاع الطاقة والتي تستخدم في تعزيز ترسانتها المسلحة ونفوذها الدولي . لقد شكلت حقول الغاز وإمداداتها في آسيا الوسطى ومنطقة بحر قزوين نقطة مركزية بالنسبة الى الادارات الاميركية المتعاقبة منذ جورج دبليو بوش وحتى ادارة بايدن كي تكون بديلاً عن الخطوط الروسية لنقل الغاز الى اوروبا . واكتسبت تركيا العضو في حلف شمالي الاطلسي في هذا المشروع اهمية استراتيجية بالغة حيث تشكل المعبر الالزامي لمرور غاز آسيا الوسطى عبر بحر قزوين الى اوروبا.  لكن بوتين ، استطاع ان يحتكر جزءاً مهماً من غاز دول آسيا الوسطى ، والاستمرار بخط "نورد ستريم ٢" على الرغم من العقوبات الاميركية على الشركات المساهمة بالمشروع . إستراتيجية الطاقة الروسية للعام 2030 ركّزت ايضاً على اهمية توجيه جزء من صادرات الغاز الروسي باتجاه المستوردين الآسيويين ، فاكتسب خط قوة سيبيريا الذي تمّ تدشينه في العام 2019 اهمية جيوسياسية كبيرة مع اهتمام اليابان وكوريا الجنوبية بسد جزء من حاجتهما من الغاز الروسي . معركة امتلاك النفوذ من خلال خطوط الغاز مستمرة، وخطط تطويق روسيا من خلال توسيع حلف شمالي الاطلسي باتجاه منطقة النفوذ الروسية التقليدية مستمرة ايضاً، والازمة الاوكرانية هي احد اوجه هذا الصراع.

يجري هذا الصراع في مرحلة التحول الى الطاقة البديلة والتي تعتبر خشبة الخلاص من الازمات التي تضرب سوق الطاقة التي تشهد ارتفاع الطلب نتيجة التعافي الصحي من خلال نشر اللقاحات ، الامر الذي يعيد طرح إمكانية زيادة الانتاج لدول اوبك + لتلبية احتياجات الاسواق ، بعد ان تجاوز سعر برميل النفط عتبة الـ91 دولاراً ، ومع توقعات "غولدمان ساكس" ان يصل سعر البرميل الى مئة دولار اميركي في العام الحالي . ويأتي استخدام بوتين لسلاح الغاز في النزاع على استراتيجية الامن الاوروبي من البوابة الاوكرانية بهدف ارغام الاوروبيين على تقديم التنازلات، وإحداث شرخ في وحدة الموقف الاميركي والاوروبي ، ليزيد من حدة التوترات الجيوسياسية ، ويعطي ادارة بايدن ورقة البحث عن بدائل للغاز الروسي الذي طالما بحثت عنها الادارات الاميركية المتعاقبة في الوقت الذي كان بوتين قد تعهد في قمة فيينا التي جمعته في الصيف الفائت مع الرئيس بايدن، بإستمرار دور روسيا البناء والتعاون في تأمين الطاقة الى الاسواق العالمية والحفاظ على حرية الملاحة لضمان امن الامدادات الى الاسواق. والاسئلة التي تطرح نفسها: هل سينجح الاميركيون في هذا الخيار الاستراتيجي ويقلصون اعتماد اوروبا على الغاز الروسي؟ وما هو الثمن الذي ستدفعه اوروبا اقتصادياً وسياسياً؟ وكيف ستتعامل المانيا مع هذا الخيار الذي سيؤدي الى تأثيرات جيوسياسية كبيرة ؟ ويبقى السؤال الكبير ، كيف سيردّ بوتين على هذا الاستهداف الكبير لخط "نورد ستريم ٢"، الذي من المتوقع أنه سيضاعف قدرة تصدير الغاز الروسية المباشرة الحالية إلى أوروبا الغربية، إلى 110 مليارات متر مكعب ويرفع من المداخيل الروسية بالعملات الصعبة ويمنح روسيا مزيداً من النفوذ الجيوسياسي في اوروبا؟

تنافس أميركي روسي على أسواق أوروبا

اكتشافات احتياطات الغاز الهائلة في دول شرق المتوسط ، والتوقعات في ان تتصدر الولايات المتحدة الاميركية لائحة مصدري الغاز في العام 2022 متجاوزة قطر واستراليا أكبر مصدرين للغاز الطبيعي المسال في الوقت الراهن ، رفعا من حدة المنافسة الاميركية الروسية على الاسواق الاوروبية ، حيث اخذت الولايات المتحدة الاميركية منذ فترة تطرح صادراتها من الغاز بديلاً عن الغاز الروسي . ويقول محللون في "غولدمان ساكس" إن الولايات المتحدة الاميركية قادرة على تأمين نحو 22 في المئة من الطلب العالمي على الغاز الطبيعي المسال . وعلى وقع الازمة الاوكرانية وقرارت بوتين بتقليص صادرات الغاز الى اوروبا، بدأت الخارجية الاميركية المفاوضات مع شركات الطاقة بقيادة مستشار أمن الطاقة آموس هوشستين ، وذلك لبحث مجموعة من الخيارات والحالات الطارئة على حدّ تعبير احد مسؤولي الامن القومي الذي أكّد ايضاً انه لم يطلب من الشركات زيادة الانتاج . وذكرت صحيفة "وول ستريت" أن الادارة الاميركية ارسلت عشر ناقلات من الغاز الى اوروبا ، لكن يبدو أن العين الاميركية في ايجاد حل مستدام تقع على قطر التي تمتلك 15 في المئة من الاحتياطي العالمي لاكتشافات الغاز والتي تقود استراتيجية زيادة إنتاجها بـ 40 في المئة في حلول العام 2026 ورفع طاقتها الإنتاجية السنوية من 77 مليون طن حالياً إلى 110 ملايين طن. فهل تستطيع قطر أن تلعب دور البديل عن الغاز الروسي الآتي الى اوروبا عن طريق خطوط اوكرانيا ويامال (بولندا ) وبحر البلطيق؟ من الصعب التكهن بنجاح هذا الرهان  حيث تستورد اوروبا من الغاز 560 مليار متر مكعب سنوياً، وتبلغ تدفقات الغاز عبر الانابيب 447 ملياراً تمثل روسيا حصة 35 في المئة من هذه الكمية. المصادر الاخرى عبر الانابيب تصل اوروبا من النروج ، الجزائر وغيرهما، اما حصة الولايات المتحدة الاميركية في السوق الاوروبية بالكاد تكفي الاستهلاك المنزلي. ويبقى السؤال ايضاً حول قدرة قطر على التعامل مع الطلب الاميركي وتأمين احتياجات اوروبا من دون الإضرار بمصالح زبائنها من الدول الآسيوية ، ولاسيما اليابان وماليزيا المرتبطين معها بعقود طويلة الاجل ، إذ يعتمد هؤلاء الشركاء بشكل رئيسي على الغاز القطري لتأمين احتياجاتهم. وفي مقابل المفاوضات التي تقودها الولايات المتحدة الاميركية مع الشركات وبانتظار زيارة امير قطر الى واشنطن ، يبدو أن الحذر الاوروبي من امساك الولايات المتحدة بورقة الطاقة الاوروبية كبير جداً، اذ ذكرت صحيفة الفايننشال تايمز أن المفوضية الاوروبية أرسلت وفداً الى اذربيجان للتفاوض على إمدادات الغاز الى اوروبا اذا اندلعت الحرب في اوكرانيا. فهل تقدم اذربيجان على هذا الخيار؟ وهل من فرصة جيوسياسية كبيرة لتركيا عبر الرابط التركي اليوناني الايطالي ؟

بالطبع لا تقف الازمة عند تعقيدات الخيارات المطروحة لتزويد اوروبا بالغاز بديلاً عن الطاقة الروسية ، إذ إن ارتفاع المخاوف من اجتياح روسي لاوكرانيا، يرفع من احتمال فرض عقوبات على قطاع النفط الروسي الذي يمثل 60 في المئة من الصادرات الروسية . وفي حال تحقق هذا السيناريو، ستتعرض سوق الطاقة لتوترات كبيرة تطرح أمن الطاقة وتلبية احتياجات الاسواق. بغياب إمكانية الرهان على اوبك + باتخاذ قرار لتعويض حصة روسيا من سوق الطاقة التي تبلغ 4.7 ملايين برميل يومياً ، مع التوقعات بنمو الطلب الى حدود 3.7 ملايين برميل يومياً، قد تلجأ الولايات المتحدة الاميركية إلى السعودية لرفع حصتها من الانتاج لاحتواء توترات السوق. المعطيات المتوفرة تؤكد صعوبة تجاوب المملكة مع هذا الطلب رغم مزاياه الجيوسياسية الكبيرة ، وذلك لعدم خلق التوترات مع شركائها من اعضاء منظمة اوبك+ وحرصاً منها على ان لا تكون اي زيادة في الانتاج على حساب هؤلاء الشركاء. اذاً، الخيارات المطروحة في بدائل الغاز الروسي وتعويض الاسواق العالمية مقابل كميات النفط الروسي في حال العقوبات على قطاع الطاقة في روسيا، معقدة ومتشابكة . فهل تعود ادارة بايدن واوروبا إلى الواقعية وتعترفان باستمرار أهمية موسكو لامن الطاقة الاوروبية؟ وهل يتراجع بوتين عن الاستخدام السياسي لورقة الغاز؟

إزاء هذه التعقيدات التي تواجه خيارات التصعيد والمواجهة لكلا الاطراف ، تبقى كلفة المسار الدبلوماسي والتنازلات المتبادلة ، اقل بكثير من كلفة الحرب والعقوبات وتداعياتها على امن الطاقة ونظام المدفوعات الدولي Swift ، وكذلك على العلاقات الدولية التي تشهد اصلاً توترات جيوسياسية بين القوى الكبرى على خلفية  قضايا متعددة . وعلى الرغم من كلفة المواجهة التي تقرّ بها الاطراف كافة ، فإن سيناريو انهيار المسار الدبلوماسي قائم ، بعد ان اعتبر بوتين أن الردّ الاميركي على طلب الضمانات لم يأخذ  بهواجس روسيا ، وبعد ان  تمسك الغرب بعدم إعطاء بوتين حق الفيتو على القرارات السيادية لدول اوروبا الشرقية التي ترغب الانضمام إلى حلف شمالي الاطلسي . فهل نشهد بعد عودة بوتين من الصين للمشاركة في افتتاح الالعاب الاولمبية الشتوية اجتياح اوكرانيا ، أم يستقي بايدن الدروس من براغماتية جون كنيدي في التعامل مع ازمة الصواريخ في العام 1962، ويعود الى روحية ما اتفق عليه عند تفكيك حلف وارسو وقيام الوحدة الالمانية ، اي عدم تمدد حلف شمالي الاطلسي الى الحدائق الخلفية للاتحاد الفيدرالي الروسي؟

* *استاذ الدراسات العليا في الجامعة اللبنانية- كلية الحقوق والعلوم السياسية والادارية، وباحث في المسائل الجيوسياسية