ما علاقة سرقة البيانات الشخصية بالسياسة والأعمال؟

18.01.2019
هل تورّط ستيف بانون وروبرت ميرسر ونايجل فاراج في التحضير للتظاهرات الأخيرة في أوروبا؟
Twitter icon
Facebook icon
LinkedIn icon
e-mail icon
شارك هذه الصفحة مع آخرين
Print Friendly, PDF & Email
إياد ديراني

تتعرّض بيانات المستخدمين في منصّات الانترنت مثل فايسبوك وغوغل وغيرهما إلى اختراقات هائلة تطاول عشرات ملايين الحسابات كل فترة، يُعلن عن بعضها ويتم التكتم على بعضها الآخر. وتسارع عادة الشركات الرقمية الكبرى إلى التبرؤ من وزر هذه الاختراقات مدّعية أنها ضحية، كما هو حال المستخدمين. لكن هل القضية بهذه البساطة، مجرد اختراق وسعي الشركات لتبرئة نفسها؟ أم أن بيانات المستخدمين باتت سلاحا بيد شركات صناعة الرأي العام والاستشارات السياسية وأصحاب الأجندات الاقتصادية ورسم السياسات الدولية؟  

تبرز هنا أسئلة ضمن ثلاثة محاور: أولا ما الذي يحدث، وكم من المستخدمين تم تسريب معلوماتهم خلال العام 2018؟ ثانيا، كيف تتم الاستفادة من المعلومات الشخصية المسروقة، وما علاقتها بالانتخابات والاستفتاءات مثل استفتاء خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي Brexit وما هي عمليات "النمذجة النفسية" Psychological Profiling التي اعتمدتها شركات صناعة الرأي مثل "كامبردج أناليتيكا" للتأثير على انتخابات الرئاسة الأميركية، ومن هو ستيف بانون الذي ذُكر اسمه في عدد من ملفات التلاعب والتأثير على نتائج الانتخابات والاستفتاءات ومؤخرا في ملف الحراك الشعبي في فرنسا وبعض بلدان أوروبا؟ وثالثا، هل يمكن أن تكون فايسبوك وغوغل وغيرهما من الشركات التي تحتفظ بكميات هائلة من المعلومات عن حياتنا الشخصية، متورطة في تسريب البيانات أم أنها فعلا ضحيّة كما تدّعي؟ 

اختراقات بالجملة والمفرّق

بعد أقل من ثلاثة أشهر على فضيحة اختراق منصة التواصل الاجتماعي فايسبوك وسرقة بيانات نحو 50 مليون مستخدم، أعلنت الشركة أنها تعرّضت من جديد لاختراق أدى إلى كشف بيانات نحو 6.8 مليون مستخدم. وفي كل مرّة تقدم فايسبوك اعتذارا إلى المستخدمين وتمضي في أعمالها كأن شيئا لم يكن. وتطرح هذه الاختراقات المتكررة علامة استفهام كبيرة حول مستقبل هذه المنصة الاجتماعية وغيرها من المنصات الرقمية التي لا تخضع لأي قوانين واضحة خصوصا عندما يتعلق الأمر بتسريب بيانات مستخدميها سواء عن قصد أم عن غير قصد. وفي بداية العام 2018 تم الكشف عن تسريب بيانات نحو 87 مليون مستخدم إلى شركة الاستشارات السياسية "كامبردج أناليتيكا"، التي استخدمتها مع شركات أخرى في سياق حملة إعلامية ضخمة لصالح الرئيس الأميركي دونالد ترامب العام 2016. 

كذلك أعلنت الشركة عن اختراق سمح بالوصول إلى مئات آلاف المستخدمين في الهند. ولم تقتصر الاختراقات على فايسبوك، غوغل أيضا أعلنت منذ شهرين عن اختراق بيانات نصف مليون مستخدم لديها، قبل أن تشير إلى اختراق آخر سمح بالوصول إلى بيانات 52.5 مليون مستخدم. وفي شهر يوليو 2018 أُعلن عن اختراق طاول ملايين حسابات البريد الإلكتروني على موقع "جيميل" Gmail الذي تملكه غوغل. بداية شهر ديسمبر أيضا، أعلنت "كورا" Quora وهي منصة تتيح للمستخدمين طرح الأسئلة والحصول على أجوبة من مستخدمين آخرين، عن اختراق سمح بتسريب بيانات 100 مليون مستخدم! حتى الفنادق لم تسلم من الاختراقات، فقد أعلنت سلسلة فنادق "ماريوت – ستاروود" عن اختراق سمح بسرقة المعلومات الشخصية لنحو 500 مليون نزيل، وشملت المعلومات بيانات الإقامة الفندقية والهويات وجوازات السفر ومواعيد السفر وغيرها منذ العام 2014. 

ولم تتوقف الاختراقات وسرقة البيانات هنا، إذ شملت أيضا مستخدمي التلفاز الذكي حول العالم الذي يكاد يصل عدد مستخدميه إلى المليار. فبحسب جوليان أسانج مؤسس موقع ويكيليكس الشهير الذي يحاكم في عدد من دول العالم من بينها الولايات المتحدة بتهمة تسريب معلومات، تخترق وكالة المخابرات المركزية الأميركية CIA أجهزة التلفاز حول العالم للقيام بعمليات مراقبة أمنية. وبحسب تقارير، فقد ضمّنت معظم الشركات الصانعة للتلفاز الذكي أجهزتها ببرمجيات لنقل الصوت والصورة وأحيانا الفيديو من داخل المنازل. ومؤخرا تم تداول معلومات تفيد أن شركات مثل Sony، TCL، Philips، وغيرها سمحت لشركة Samba TV بوضع تطبيق مشابه تماما لتطبيقات الهواتف الذكية داخل أجهزة التلفاز التي تصنعها، وتم استغلال هذا التطبيق لاختراق خصوصية المستخدمين لكن هذه المرة بالصوت والصورة! 

كيف تعمل منصات التواصل:

فايسبوك كنموذج

بما أن شركة فايسبوك هي من المواقع التي ادعت تعرّضها لأكثر عمليات الاختراق وسرقة المعلومات، دعونا نلقي نظرة على نموذج عملها وسبب اهتمام لصوص بيانات المستخدمين بها.

الشركة تقول في موقعها أنها متخصصة ببيع الإعلانات وفق شروط معيّنة بهدف عرضها على المستخدمين داخل منصتها الاجتماعية والذين بلغ عددهم في الربع الثالث من 2018 نحو 2.2 مليار مستخدم. عام 2017 بلغت عائدات مبيعاتها من الإعلانات نحو 39.9 مليار دولار. لكن عائدات الشركة من منصة التواصل الاجتماعي هي جزء من عائداتها الاجمالية، إذ ساهم تطبيق واتساب Whatsapp الذي تملكه بنحو مليار دولار ضمن بند الإيرادات عام 2017. وفي حالة تطبيق واتساب، لا تبيع الشركة إعلانات، لكنها تخطط لدمج منافع قاعدة معلومات المشتركين بمنصة فايسبوك لتوجيه إعلانات موجّهة إلى مستخدمي فايسبوك.

دعونا نتعمّق أكثر في نموذج عمل فايسبوك، من خلال تسليط الضوء على عمليات الاستحواذ التي قامت بها  خلال السنوات الـ 14 الماضية. منذ عام 2004، تاريخ إطلاق منصتها الاجتماعية، استحوذت فايسبوك على نحو 72 شركة لقاء نحو 23.5 مليار دولار، معظمها ناشط في مجال المنصات الاجتماعية والخدمات التي تتعلّق بها. أشهر عمليات الاستحواذ كانت تلك التي أدت إلى وضع الرئيس التنفيذي لـ فايسبوك مارك زوكربرغ يده على شركة "واتساب" Whatsapp لقاء 19 مليار دولار و"أوكولوس" Oculus لقاء 2 مليار دولار و"انستغرام" Instagram لقاء مليار دولار. الشركات الأخرى معظمها أميركية، إسرائيلية وبريطانية وبلغت القيمة الاجمالية للاستحواذ عليها نحو 1.5 مليار دولار. القاسم المشترك بين معظم هذه الشركات هو أنها تمتلك قواعد هائلة للمستخدمين. 

لكن كيف تتم الاستفادة من بيانات المستخدمين المسروقة؟ 

لماذا أوردنا هذه التفاصيل؟ ببساطة لنسلّط الضوء على نقطتين، الأولى أن جوهر عمل الشركة هو جمع المستخدمين في منصات التفاعل الرقمية المختلفة وبيع المُعلنين حق الوصول إليهم من خلال إعلانات بعضها واضح على شكل إعلان فيديوي أو صورة وبعضها الآخر غير واضح ويتخذ أنماطا مختلفة كالنصوص والاعلانات الموجّهة. لكن أخطر ما باعته الشركة هو حق وصول أطراف خارجية إلى محتوى صفحات مشتركيها، وهو ما حصل مع "كامبردج أناليتيكا" التي استخدمت بيانات المستخدمين لتعزيز حظوظ دونالد ترامب في معركة رئاسة الولايات المتحدة والمساعدة على تنفيذ حملات إعلامية لدعم الـ Brexit. وتستخدم هذه الشركة تقنيات ثورية جديدة في تنفيذ الحملات الإعلامية.  

ولنتوقف هنا قليلا لتسليط الضوء على شركة الاستشارات السياسية "كامبردج أناليتيكا". تأسست الشركة على يد المستشار السابق للشؤون الاستراتيجية للرئيس الأميركي دونالد ترامب ومدير حملته الانتخابية ستيف بانون وشريكه رجل الأعمال الثري روبرت ميرسر الداعم للحزب الجمهوري، وهو معروف كعالم كومبيوتر وصاحب اكتشافات في مجالي الذكاء الاصطناعي وعلم النفس. وروبرت ميرسر بحسب تحقيق لصحيفة الغارديان هو صديق وشريك الزعيم البريطاني المناهض للاتحاد الأوروبي نايجل فاراج، وهما متهمان مع رجل الأعمال وصاحب شركة البيانات الرقمية آرون بانكس بالتأثير من خلال منصات الانترنت وتحليل كميات كبيرة من الداتا الخاصة بمستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي على نتائج استفتاء الـ Brexit. وتؤكد مجلة نيويوركر في تقرير نشرته في 17 نوفمبر الماضي أن علاقة ميرسر وبانون تخطت انتخابات الرئاسة الأميركية وشملت استفتاء الـ Brexit. 

نشاطات بانون لم تتوقف هنا بل وصلت مؤخرا إلى مظاهرات حركة السترات الصفر الفرنسية. وكتب الصحافي جنان غانيش في الفايننشال تايمز عن الاضطرابات في فرنسا، فقال إنه "لتعلم ما الذي يحدث عندما تصبح المجتمعات غير حريصة، أنظر حولك. ما الذي يوحّد مستشار الرئيس دونالد ترامب الأسبق ستيف بانون مع حركة تظاهرات السترات الصفراء الفرنسية ومؤيدو الـ Brexit الأكثر تشددا؟". ومنذ أيام، حل بانون ضيفا في مؤتمر الحزب الفلمنكي الذي انعقد في بروكسل، وقال في كلمته بعد أن عبّر عن فرحه قائلا: "باريس تحترق"، إن حركة السترات الصفراء الفرنسية مؤلفة من ذات نوعية الناس التي انتخبت ترامب وسعت إلى تحقيق الـ Brexit، "إنهم يريدون حماية أوطانهم". 

كيف تعمل "كامبردج أناليتيكا"؟

لكن كيف تؤثر شركة مثل "كامبردج أناليتيكا" على آراء وتوجهات الناخبين؟ خلال الانتخابات تجنّد الأحزاب وجماعات الضغط الشركات الإعلامية المتخصّصة في كسب التأييد واستمالة الناخب. في السابق كانت هذه الشركات الإعلامية تعتمد قنوات إعلامية تقليدية كالصحف والمجلات وإعلانات الطرقات والراديو لكسب التأييد الشعبي للمرشحين. لكن مع ثورة تكنولوجيا المعلومات فُتحت أمام المسوّقين ومسؤولي الحملات الإعلامية أبوب لم يحلموا بها. يمكن لتحليل بيانات مستخدمي مواقع التواصل معرفة ميولهم السياسية، وبالتالي استهدافهم بحملات إعلامية منظّمة للتأثير على آرائهم. وتقوم "كامبردج أناليتيكا" بتطبيق ما تسمّيه "النمذجة النفسية" Psychological Profiling في مساعيها لمعرفة وتوجيه الأصوات الانتخابية. ويقول عالم النفس والبروفيسور المساعد لقسم السلوك المؤسساتي في جامعة ستانفورد مايكل كوسنسكي في مقابلة منشورة على موقع الجامعة على الانترنت أن الأبحاث الجديدة، تؤكد أن هذا النوع من الاستهداف السيكولوجي للناس المتمثّل في "النمذجة النفسية" ليس فقط ممكنا "بل فعّال كأداة إقناع رقمية للجماهير".   

وتقوم "كامبردج أناليتيكا" أيضا بكسب تأييد الأشخاص لقضايا سياسية معيّنة، من خلال استهداف وسطهم الاجتماعي على منصات التواصل لتحديد واستغلال ثغرات يمكن استخدامها لتغيير آرائهم، كما تستهدفهم بكم من المعلومات غير المباشرة على عدة منصات رقمية في ذات الوقت، أي أنها تحاصرهم من كل الجهات الرقمية من دون أن يعرف المُستهدف من أي جهة يتم استهدافه. وقد أتاحت هذه الأساليب التطورات الكبيرة الحاصلة مؤخرا على جبهة ما بات يُعرف بـ "البيانات الكبيرة" Big data و"تحليل البيانات" Data Analytics و"الذكاء الاصطناعي" Artificial Intelligence (AI)، وغيرها من التقنيات. وتُستخدم بعض هذه الأساليب التقنية المتقدمة، من جانب مؤسسات مالية واقتصادية كالبنوك وشركات السيارات وحتى فرق كرة القدم كالمنتخب الألماني.  

من الانتخابات إلى طعام الكلاب

شركات القطاع الخاص أيضا مستفيدة من المعلومات الشخصية المسروقة والمتعلقة بالمستخدمين. فايسبوك مثلا كما غوغل يسجّلان أحاديث المستخدمين من خلال مايكروفون الهاتف الذكي، وهذا أمر لا تخفيه الشركتان، إذ تطلبان لدى تنزيل تطبيقاتهما على الهاتف حق الوصول إلى عدد من عناصر الهاتف كالميكروفون والكاميرا وموقع الهاتف على الخريطة وغيرها الكثير من الحقوق. المستخدم مُجبر للحصول على حق الاشتراك في فايسبوك بأن "يوافق" على شروط الاستخدام، لكن من يقرأ هذه الشروط قبل أن يضغط على زرّ "موافق" I Accept؟ ومن يعرف ما الموجود في العقد؟ وعلى كل حال الشركة غير مسؤولة عن عدم معرفة أو جهل المُستخدم، وربما دولته يجب أن تحميه من تلك لى المخاطر، لكن هذا نقاش آخر. 

المهم هنا أن شركات التطبيقات تستمع إلى أحاديث المُستخدم والأشخاص الموجودون قرب هاتفه، وتحلّل هذه المعطيات وتحوّلها إلى بيانات. هذه المعلومات يمكن استخدامها في زيادة مبيعات شركات معيّنة أو حتى معرفة رأيك وتوجهاتك السياسية، لا حدود لحجم المعلومات التي يمكن استقائها. وكيلا تختلط علينا الأمور هنا، فلنضرب مثلا: تتحدث إلى ابنتك في المنزل، تقول أنت: هل جلبت الطعام للكلب؟ تجيب ابنتك: كلا. بعد قليل وأثناء تصفّحك لحسابك في فايسبوك يظهر فجأة إعلان لعلامة تجارية معيّنة تبيع طعام الكلاب. وعلى الأرجح، المثل المضروب هنا يفسّر نفسه.

مليارات المستخدمين والفرص

لكن الموضوع هنا ليس موضوع كلب وشركة تبيع طعام الكلاب. الموضوع هنا هو كمية البيانات المعرّضة للسرقة. ثمة 2.2 مليار شخص يستخدمون فايسبوك و1.9 مليار يستخدمون "يوتيوب" Youtube ونحو مليارين يستخدمون نظام "أندرويد" Android من غوغل ومليار مستخدم لبريد Gmail الذي تملكه أيضا غوغل. ولا يتوقف الأمر هنا إذ أن نظام تشغيل التلفاز الذكي "أندرويد" يعمل على نحو 40 في المئة من أجهزة التلفاز الذكية حول العالم والبالغ عددها نحو 759 مليون. وكل هؤلاء المستخدمين تتم سرقة بياناتهم دوريا أو تُباع وتُشترى في سوق غير منظّمة ولا تحكمها لا قوانين عالمية ولا ضوابط واضحة سوى قوانين السوق "العرض والطلب". 

هل فايسبوك وغوغل متورطان بتسريب البيانات؟

وهنا نأتي إلى السؤال الثالث: هل يمكن أن تكون فايسبوك وغوغل وغيرهما من الشركات التي تحتفظ بكميات هائلة من المعلومات عن حياتنا الشخصية متورطة في تسريب البيانات؟ أثناء جلسات الاستماع في الكونغرس ادّعى رئيس فايسبوك مارك زوكربرغ في شهادته أن موظفيه غير متواطئين في عملية الاختراق التي قامت بها شركة الاستشارات السياسية "كامبردج أناليتيكا" وأن شركته لم تسمح لهم بالوصول إلى ما وصلوا إليه. لكن هل ما قاله زوكربرغ مهم في هذا السياق؟ بالطبع لا، لأن فايسبوك كما كل الشركات المماثلة تبيع حق وصول أطراف معيّنة إلى جزء أو أجزاء من بيانات المستخدمين لقاء بدل مالي، وهذا ما أقرّ به زوكربرغ خلال جلسات الاستماع، لكنه أشار إلى أنها تبيع البيانات وفق "ضوابط وشروط".