هــل يستفيــد لبـنــان
من الدرس اليوناني؟

26.11.2018
Twitter icon
Facebook icon
LinkedIn icon
e-mail icon
شارك هذه الصفحة مع آخرين
Print Friendly, PDF & Email
الاقتصاد والاعمال - اللبنانية

في سياق الحديث عن حجم الدين العام في لبنان رفض العديد من المحللين إبراز أوجه شبه مع لبنان واليونان لعدة اعتبارات منها حجم الدين في البلدين وطبيعته مع التأكيد أن حجم الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي يضع لبنان في المرتبة الثالثة بعد اليابان واليونان.

غير إن المقارنة بين لبنان واليونان تأخذ مقاربة مختلفة لجهة السياسات والإجراءات التي اتخذتها الحكومة اليونانية على مدى السنوات القليلة الماضية والتي أدت إلى دخول الاقتصاد اليوناني في مرحلة التعافي، ومن خلال تدابير جريئة وغير شعبوية يخشى أن لا يجرؤ لبنان على اتخاذها.

ولا شك في أن المشاركة في اجتماع القمة الاقتصادية الأوروبية - العربية الذي انعقد نهاية الشهر الماضي سمحت بإجراء مقارنة من نوع آخر بين لبنان واليونان تحمل عنوان «لبنان والدرس اليوناني».

يقدم التعافي الاقتصادي اليوناني، والذي جاء نتيجة لثماني سنوات من التضحيات والسياسات التقشفية درساً بالغ الفائدة للحكومة اللبنانية التي تواجه إستحقاقات متزايدة وديناً عاماً وعجز ميزانية وتراجعاً متسارعاً في ميزان المدفوعات، ولم يعد أمام لبنان سوى مهل قصيرة قبل أن يستنفذ دفاعاته كلها ويواجه أزمة مالية غير مسبوقة حسب إتفاق الخبراء والمصرفيين والاقتصاديين. 

إن التشابه بين اليونان ولبنان كبير وفي أوجه كثيرة، فاليونان بلد متوسطي تجمعه بلبنان، البلد المتوسطي الجار، سمات عديدة في التكوين الاجتماعي والثقافة والتاريخ، ويبدو أن المزاج المتوسطي وكأس العرق والأوزو  يحل الكثير من العقد ويفتح الشهية لأكثر من المازة المرافقة. فاللبناني واليوناني كلاهما يحبان الحياة وفرصة الظهر (من 2 حتى 5 بعد الظهر) مقدّسة  في اليونان، ودوام العمل (المقدّس أيضاً) في لبنان 8 ساعات رسمياً وعملياً أقل من ذلك بكثير ناهيك عن العطل السنوية والدينية والوطنية. اليونان عرفت الإشتراكية وحكومات اليسار ونشأت لديها بذلك نقابات قوية وعمال يتوقعون الكثير من القطاع الخاص ومن والدولة، كذلك في لبنان فقد ساهمت الضغوط وتحركات النقابات في فرض تعديل سلسلة الرتب والرواتب التي ستكبّد الدولة مليارات إضافية من دون أن يكون هناك أي تمويل يغطي عبئها الإضافي على ميزانية الدولة وعجزها البالوني.  

واليونان مدمنة على التوظيف لأغراض سياسية وكذلك على زيادة الأجور إرضاء للرأي العام، فأصبحت المنتجات اليونانية غير منافسة وتراجعت كثيراً الصادرات اليونانية إلى الخارج وهذا كان من العوامل التي أدت إلى تفاقم الأزمة المالية لليونان وانفجارها في العام 2009. 

لكن كون اليونان دولة عضو في الاتحاد الأوروبي  جعلها تستفيد من مساعدات سخية لأكثر قطاعات الاقتصاد كما إنه وفّر لها الدعم المالي الهائل (أكثر من 250 مليار يورو ) الذي مكّنها من تعويم مصارفها واقتصادها وإعادة جدولة ديونها مع العلم أن القروض الأوروبية ذات آجال طويلة جدا وسيتم تسديد قسم منها بعد 42 عاماً أي في العام  2060. 

التعافي اليوناني

لكن التعويم الأوروبي لليونان ربط بشروط صارمة قلبت حياة اليونانيين رأساً على عقب، إذ أجبرت اليونان على تحقيق التوازن المالي ضمن مدة معينة، والأخذ بالتالي بإجراءات تصحيح صارمة مثل رفع الضرائب وخفض الإنفاق الحكومي وتقليص العمالة الحكومية الفائضة وخفض الحد الأدنى للأجور بحيث هبط الدخل الفعلي لليونانيين بنحو 33 في المئة  في ست سنوات. 

لكن هذه الإجراءات أدت في النهاية إلى تعافي الاقتصاد اليوناني وإلى عودة الأجور للتحسن وبدء تراجع البطالة وتحسن مستوى معيشة المواطنين.

هــل يتمكــن لبــنــان مــن اتخــاذ إجــراءات موجعة وغيــر شعبــويــة لضبــط الإنفــاق؟

«سيـــدر» فرصــــة لوقــف التدهـــور، فهل تضيع بسبب غياب الإصلاحات؟

إزالة العمالة الفائضة

إن الخفض الأكبر في حجم العمالة في اليونان تمّ من خلال التناقص الطبيعي (أي بلوغ العاملين سن التقاعد) لكن من دون استخدام موظفين جدد يحلّون محلهم، وهذا خيار متاح للبنان أيضاً إذا كان الهدف خفض التضخم السرطاني المستمر في أجهزة الدولة، إذ إننا ما زلنا نوظف الألوف سنوياً في الأسلاك الأمنية غير المنتجة وفي مؤسسات وهمية لا عمل أو إدارات متخمة بالموظفين، وهذا رغم وجود قرارات حكومية بوقف التوظيف ورغم الحالة المزرية لميزانية الدولة. 

كيف يمكن للبنان أن ينجو من هذا المنحدر الخطر؟ من سيبادر إلى وضع برنامج «يوناني» لوقف التدهور ووضع الاقتصاد مجدداً على سكة النمو الصحّي، وهل يمكن للسياسيين الذين هم سبب المشكلة أن يكونوا هم الذين ينفذون الإصلاحات؟ وإن لم يكن ذلك ممكناً فمن أين سيأتي الحل؟ 

«سيدر» ينتظر

لقد مرّ على توقيع اتفاقات برنامج «سيدر» أكثر من سنة ونصف سنة وهناك إلتزامات لصالح لبنان بقيمة 11 مليار دولار مخصصة لمساعدته على تطوير بنيته التحتية ومعالجة مشكلة الكهرباء ووضع الأسس لإطلاق النمو الاقتصادي، لكن مساعدات «سيدر» رُبطت (على الطريقة اليونانية) بتحقيق جملة من الإصلاحات الهيكلية التي تعهد بها لبنان، وهي إصلاحات لم يتحقق أي منها بعد،  لذلك فإن البلد لم يجن اي فائدة من هذه الفرصة وقد تفوته بالكامل.

إن مؤتمر «سيدر» يشكل فرصة ذهبية للبنان يمكن أن تبدّل مساره من اتجاه العجز ونذر التدهور المالي والنقدي إلى مسار تنموي ينقذ البلد من الهوة التي يتجه إليها، لكن الفارق مع المثال اليوناني هنا هو أن الهيئات المانحة فرضت على اليونان تطبيق عمليات التصحيح وحددت السياسات المطلوب الالتزام بها وراقبت تنفيذها بينما الهيئات الدولية المانحة لبرنامج «سيدر» ليست لديها تلك السلطة، وهي تعتبر أن الأمر مناط  بالدولة اللبنانية، إن هي طبقت الإصلاحات حصلت على المساعدات وإن تلكأت فلن تحصل على شيء وستبقى مساعدات سيدر بالتالي «حبراً على ورق» كما يقال.

لنقف أولاً أمام الإنجاز الذي حققته اليونان والتي تمكنت بعد ثماني سنوات على انفجار أزمة الديون وقبولها بالشروط  القاسية لبرامج الإنقاذ التي قدمها الاتحاد الأوروبي، من تحقيق كافة أهداف التصحيح وعلى رأسها عودة البلاد إلى ميزانية متوازنة مع فائض طفيف ابتداء من العام 2017  وقد حافظت اليونان على ميزانية متوازنة أيضاً في العام 2018  .

بدأت اليونان بقطف ثمار إعادة هيكلة سوق العمل وخفض التكلفة الباهظة للعمالة على شكل خفض شامل في تكلفة السلع اليونانية وزيادة في تنافسية الصادرات التي قفزت مساهمتها في الناتج المحلي من 23 في المئة العام 2009 إلى 32 في المئة العام 2018 ، نتيجة لذلك، انخفض عجز الميزان التجاري من 10 في المئة من الناتج المحلي في العام 2010 إلى 2 في المئة في العام 2018 وبدأت اليونان في تسجيل تدفقات متزايدة للاستثمارات الأجنبية خصوصاً في قطاع العقار والسياحة، ونتيجة لذلك سجل ميزان الحساب الجاري في اليونان تحسناً كبيراً بحيث اختفى العجز تقريباً في العام 2018 بعد أن كان في حدود 15.8 في المئة من الناتج المحلي في العام 2008، اي عشية الأزمة المالية العالمية. 

إن النجاح اليوناني حالة قريبة منا  يجب على لبنان الإفادة من دروسها، وعلى السياسيين في البلد أن يأخذوا النصيحة من زملائهم اليونان الذين واجهوا نفس التحديات في اتخاذ القرارات الصعبة و«غير الشعبية» وباتوا أصحاب خبرة في احتواء الآثار الاجتماعية لأي سياسة تقشفية في اقتصاد مأزوم. وفي الحقيقة على الرغم من كل اللإنتقادات التي وجهت إلى برامج التصحيح وآثارها الاجتماعية والاقتصادية،  فإن اليونان تقدم البرهان على أن كل مجتمع ينفق أكثر مما يجني ويموِّل مستوى معيشته بالدين وعلى حساب الاجيال المقبلة لا بدّ أن يصل يوماً إلى حائط مسدود، وهذا المبدأ (أي مبدأ العيش ضمن الإمكانات) يطبقه كل منا في حياته فلماذا لا يكون صالحاً بل وملزماً في ماليات الدول والحكومات؟  كذلك فإن على الفئات العاملة في لبنان أن لا تستمع إلى المزايدين والمتاجرين وأن تدرك أيضاً أنها صاحبة المصلحة الاولى في إنقاذ الاقتصاد ولو بثمن من التقشف والتكاليف الإضافية، لأن حماية مستوى عيش الفئات العاملة يتوقف على قدرة البلد على حماية النقد والقوة الشرائية للمداخيل، ولأن عدم القبول بترك الجزء من أجل إنقاذ الكلّ سيؤدي ربما إلى خسارة الكل، لأن الإستهتار الحالي، إذا استمر، سيبلغ بنا في وقت غير بعيد وضعاً نضطر فيه إلى خفض سعر الصرف والتسبب بالتالي في ذوبان الرواتب والمداخيل ومعها الزيادات الوهمية التي دفعتها الطبقة السياسية إلى المواطنين بشيكات مؤجلة أو بلا رصيد..