ظاهرة استثنائية
اقتصاد ينمو وتجارة تنكمش

30.04.2024
Twitter icon
Facebook icon
LinkedIn icon
e-mail icon
شارك هذه الصفحة مع آخرين
Print Friendly, PDF & Email

سوليكا علاء الدين

يشهد الاقتصاد العالمي ظاهرة استثنائية لم يعهدها منذ عقود، حيث ينمو الاقتصاد العالمي بمعدل 2.7 في المئة في عام 2023، بينما تنكمش تجارة السلع العالمية بنسبة 1 في المئة بالقيمة الحقيقية خلال نفس العام. وتكشف هذه البيانات الحديثة، الصادرة عن مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (الأونكتاد)، عن تباعد مثير للقلق بين مساري النمو الاقتصادي والتجاري. ففي حين حافظ النشاط الاقتصادي العالمي على وتيرته الإيجابية، واجهت تجارة البضائع العالمية تراجعًا واضحاً. وفي حال تأكّد هذه الأرقام النهائية في الأشهر القليلة المقبلة، فسيمثّل ذلك أول انكماش لتجارة البضائع العالمية منذ عقود. ويُعدّ هذا التطور سابقةً تاريخية حيث لم ينحرف اتجاه تجارة البضائع العالمية عن اتجاه النشاط الاقتصادي العالمي خلال العقود الأربعة الماضية على الأقل.

انكماش مُقلق

وفي تحديث لتقرير التجارة والتنمية لنيسان/أبريل 2024، أشار "الأونكتاد" إلى أنّه خلال الأربعين عامًا التي سبقت عام 2023، لم تشهد تجارة السلع العالمية انخفاضاً ملحوظاً سوى مرتين :المرة الأولى كانت في عام 2009 خلال ذروة الأزمة المالية العالمية، بينما حدثت المرة الثانية في عام 2020 عقب صدمة جائحة كوفيد-19. هذا وتجدر الإشارة إلى أنّ كلا الانكماشين في عامي 2009 و 2020 تزامنا مع أشد فترات الانكماش الاقتصادي منذ الحرب العالمية الثانية. ويُعدّ انكماش التجارة السلعية الدولية في عام 2023، على عكس ذلك، ظاهرة نادرة حيث حدث في ظل توسع الاقتصاد العالمي.

وكان تقرير التجارة والتنمية لـ"لأونكتاد" الصادر في تشرين الأول/أكتوبر 2023 قد توقع هذه الديناميكية، مشيرًا إلى أن التوترات التجارية المتزايدة بين بعض الاقتصادات الكبرى وتراجع الطلب العالمي سيكونان من العوامل الرئيسية وراء انكماش التجارة السلعية. وقد تفاقمت هذه التحديات بسبب ظاهرة إحصائية تُعرف باسم "التأثير الأساسي العالي". إذ يرتبط هذا الانخفاض في تجارة السلع العالمية بتحولٍ استهلاكي مؤقتٍ غير مسبوق حدث ما بين الفترة 2020 و 2022.

خلال جائحة فيروس كورونا، شهدت أنماط الاستهلاك تحولًا ملحوظًا، حيث اتجه المستهلكون بعيدًا عن الخدمات ونحو السلع المعمرة ذات الصلة بالتجارة الدولية. وشملت هذه السلع بشكل رئيسي مختلف أنواع معدات الأثاث (للمنازل والمكاتب واللياقة البدنية وغيرها). ويعود هذا التحول إلى قيود الحجر الصحي وإغلاق العديد من الأماكن العامة، مثل المطاعم ودور السينما، مما دفع الأسر، وخاصةً في الدول ذات الدخل المرتفع، إلى قضاء وقتٍ أطول في منازلها.

صدمتان بحريتان

على الرغم من عودة أنماط الاستهلاك إلى مسارها الطبيعي، بل وانخفاضها في بعض القطاعات، شهدت تجارة البضائع العالمية تراجعًا حاداً. ففي أعقاب تقرير التجارة والتنمية لعام 2023، واجهت التجارة الدولية صدمتين سلبيتين جديدتين ضربتا شرايينها الرئيسية، ألا وهي الطرق البحرية. وتمثلت هاتان الصدمتان في اضطرابات الشحن التي عصفت بقناتين بحريتين رئيسيتين للنقل: قناة بنما والبحر الأحمر.

ففي قناة بنما، أدى الجفاف الذي طال أمده إلى إجبار إدارة القناة على تقليل عدد عمليات العبور، مما ساهم في فترات انتظار أطول للسفن. وعلى الصعيد المالي، تسبّب ذلك في زيادة الرسوم على عبور أقفال القناة المختلفة بما يصل إلى ثمانية أضعاف بحلول منتصف/آذار  مارس 2024. وبالتالي، واجهت تجارة البضائع العالمية، التي كانت تُظهر بوادر تعافي في أعقاب الجائحة، تحديات جديدة ناتجة عن هذه الاضطرابات في الطرق البحرية. وتُعزى الزيادة في رسوم عبور قناة بنما إلى عاملين رئيسيين :أولاً، رفع هيئة القناة لأسعار الرسوم مسبقاً على بدء أزمة المياه. ثانياً، لجوء شركات الشحن إلى المشاركة في مزاداتٍ مُتخصصة لدفع مبالغٍ كبيرةٍ مقابل ضمان حصولها على أحد معدلات العبور القليلة المتاحة، ممّا أدى إلى ارتفاع إضافي في الرسوم.

وعلى وقع الحرب في غزة، شهد البحر الأحمر موجة من الهجمات على السفن، مما أدى إلى إجبار شركات النقل البحري الكبرى على تعليق عبور قناة السويس وإعادة توجيه مساراتها عبر رأس الرجاء الصالح. وقد نتج عن ذلك زيادة زمن النقل ما بين 12 إلى 20 يومًا، مما أضاف عبئًا إضافيًا على التجارة الدولية. ونظرًا لأن التجارة البحرية تُشكل أكثر من 80 في المئة من حيث الحجم ونحو 70 في المئة من حيث القيمة بالدولار الأمريكي من إجمالي التجارة في السلع، فقد أدت الاضطرابات في قناة بنما والبحر الأحمر إلى ارتفاع جديد في تكاليف الشحن خلال الأشهر الأخيرة. وتُعد قناة بنما والبحر الأحمر من أهم الممرات المائية للتجارة العالمية، حيث تعاملتا في السنوات الأخيرة مع 2-3 في المئة و 12-15 في المئة على التوالي من إجمالي حجم التجارة الدولية المنقولة بحراً.

عرقلة الشحن

لم تقتصر تأثيرات الاضطرابات في قناة بنما والبحر الأحمر على مسار محدد من التجارة البحرية، بل طالت جميع القطاعات، شملت الجغرافيا ونوع الشحنات (السائبة، الحاويات، الناقلات، إلخ). إذ شهدت التجارة بين آسيا وأوروبا، إلى جانب الطرق البحرية التي تربط المحيط الهادي بالسواحل الأطلسية في الأميركتين، اضطراباتٍ شديدةٍ في حركة النقل البحري.

كما امتدت تأثيرات تلك الاضطرابات لتشمل الطرق التي لا تعبر هذه النقاط الساخنة وذلك جراء التأثير المقلق على سلاسل التوريد والخدمات اللوجستية العالمية. وقد تجلى ذلك بوضوح في الارتفاع الملحوظ لأسعار الشحن، حتى على الطرق التي لم تتأثر بشكل مباشر بالاضطرابات. فعلى سبيل المثال، تضاعفت تكلفة نقل الحاويات من شنغهاي إلى "جنوة" أو "روتردام" أكثر من ثلاثة أضعاف خلال الفترة من تشرين الأول/ أكتوبر 2023 إلى منتصف آذار /مارس 2024. وبالمثل، تضاعفت تكلفة شحن الحاويات من "شنغهاي"، أكبر ميناء في العالم، إلى "لوس أنجلوس" خلال نفس الفترة.

وعلى الرغم من هذه الزيادات الحادة، لا تزال أسعار الشحن الحالية أدنى بكثير من الارتفاعات القياسية التي تم تسجيلها في أواخر عام 2021 أو أوائل عام 2022. ومع ذلك، فقد وصلت مستويات مؤشر "شنغهاي" لشحن الحاويات ومؤشر البضائع السائبة الجافة لشهر آذار /مارس 2024 إلى ما فوق 85 في المئة من النقاط المئوية لتوزيعها (بدءًا من أواخر عام 2009).

هذا ومن المتوقع أن يشهد الوضع في قناة بنما تحسنًا مع بدء موسم الأمطار في أواخر نيسان /أبريل وأوائل أيار/مايو. بالمقابل، من المرجح أن تظل الأوضاع في البحر الأحمر محفوفة بالمخاطر إلى حد كبير طالما استمرت الحرب في غزة.

وفي ظل الظروف الصعبة التي يشهدها قطاع الشحن، أشارت التقديرات إلى إمكانية نمو تجارة البضائع بشكلٍ عام انتعاشًا ضعيفًا في عام 2024، مع بوادر لعودة تدريجية إلى النمو الإيجابي. وأظهرت التقارير الأخيرة من بعض الاقتصادات المصدرة الكبيرة إلى صورة متباينة إلى حد ما. فمن ناحية إيجابية، أظهرت الصادرات من الصين وأوروبا بعض التحسن في الأشهر الأولى من عام 2024. وقد ساهم انخفاض أسعار النفط والغاز في تخفيف حدة ضغوط الطاقة في منطقة اليورو، مما أدى إلى تعزيز النشاط الاقتصادي.

كما شهدت الواردات إلى أوروبا انخفاضًا ملحوظًا بنسبة الثلث خلال الأشهر الأحد عشر الأولى من عام 2024، مما أدى إلى تحسنٍ كبير في ميزانها التجاري. وعلى النقيض من ذلك، سجلت الصادرات والواردات الأمريكية انخفاضًا طفيفًا بنسبة 2-3 في المئة  في كانون الثاني /يناير 2024 مقارنةً بنفس الفترة من العام السابق. ونظرًا لضعف الطلب على الواردات من أوروبا وبعض الاقتصادات الآسيوية المتقدمة - حيث شهد انخفاضًا تدريجيًا بالقيمة الحقيقية على مدار عام 2023 - من المتوقع أن يشهد عام 2024 نموًا معتدلًا في تجارة البضائع العالمية.

الخدمات تُنقذ التجارة

في موازاة ذلك، سجّلت تجارة الخدمات أداءً أكثر قوة. فقد استمرت تجارة السفر، أحد مكوناتها الرئيسية، في الازدياد، بينما شهدت حركة النقل تعافيًا مؤخرًا. وعلى الرغم من نقص البيانات الشاملة، أظهرت المؤشرات أن باقي مكونات تجارة الخدمات حافظت على قدرتها على التكيف خلال الأشهر الأخيرة. بالإضافة إلى ذلك، واصلت فئة الاتصالات والحوسبة والمعلومات نموها القوي. وعليه، من المتوقع أن تحافظ تجارة الخدمات ككل على نموها بوتيرة أسرع من تجارة السلع في عام 2024. ومع ذلك، لا يمكن استبعاد احتمال حدوث تباطؤ في بعض مكوناتها المختلفة، مثل خدمات البناء، وذلك تحت تأثير ارتفاع أسعار الفائدة العالمية.

بشكل عام، تُشير التطورات الأخيرة إلى بوادر تحسنٍ طفيفٍ في آفاق التجارة في السلع والخدمات لعام 2024. ومع ذلك، لا تزال التوقعات التجارية مُحاطةً بمخاطر وشكوك كبيرة، تميل بشكل أساسي إلى الجانب السلبي. وتعود هذه المخاطر إلى عوامل متعددة، تشمل الدعوات إلى السياسات الحمائية، واستمرار التوترات التجارية، وتزايد عدم اليقين السياسي. ومن بين الأمثلة الأخيرة على هذه المخاطر، قرار الاتحاد الأوروبي بفرض ضرائب إضافية على السيارات الكهربائية المستوردة من الصين، وذلك على خلفية مزاعم بتلقيها دعمًا غير قانونيٍ لصادراتها.

ولا تزال هذه التطورات  تُلقيي بظلال قاتمة على توقعات التجارة العالمية، وتُعيق الجهود المبذولة للتوصل إلى حلولٍ متعددة الأطرافٍ شاملة. ويأتي ذلك في الوقت الذي يبقى فيه التعاون الدولي في مجال التجارة ذا أهميةٍ قصوى لتعزيز حماية البيئة والتنمية المستدامة على مستوى العالم.